واستنادا إلى البحوث التي سبقت حول الهداية والضلالة والإيمان والكفر ،تنتقل الآية التالية إلى بحث المبدأ والمعاد بعبارات مضغوطة ،وتقرن آيات المبدأ بإثبات المعاد بدليل واحد ملفت للنظر ،تقول الآية الكريمة: ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً{[3571]} فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) .
نظام دقيق يتحكّم في حركة الرياح ،ثمّ في حركة السحاب ،ثمّ في نزول قطرات المطر الباعثة للحياة ،ثمّ في حياة الأرض الميتة ،وهو أحسن دليل على أنّ يد القدرة الحكيمة هي من وراء ذلك النظام تقوم على تدبير أموره .
أوّلا ،تؤمر الرياح الحارة بالتحرّك من المناطق الاستوائية إلى المناطق الباردة ،وفي مسيرها تحمل معها بخار الماء من البحار وتطلقه في السماء ،بعدئذ تتحرّك بجريانات منظّمة للبرد القطبي الذي يعاكس دوماً اتجاه الحركة الأوّل ،وتؤمر بتجميع البخار الحاصل لتشكيل الغيوم .
ثمّ تؤمر نفس تلك الريح بحمل تلك الغيوم وإرسالها إلى الصحاري الميتة ،لتلقي قطرات المطر الباعثة للحياة فيها .
بعد ذلكبشروط خاصّةتؤمر الأرض والبذور التي نثرت عليها بقبول الماء والنمو والاخضرار ،ومن موجودات حقيرة وعديمة القيمة ظاهراً تنبت موجودات حيّة وكثيرة التنوّع والجمال ،طريّة خضراء ،مفيدة ومثمرة ..تدلّل بدورها على قدرته سبحانه وتعالى ،وتشهد على حكمته ،وتكون نموذجاً من البعث الكبير .
في الحقيقة إنّ الآية أعلاه تدعو إلى التوحيد في عدّة جوانب:
«برهان النظم » دليل على الوحدانية ،و «الحركة » تقتضي وجود محرّك لكلّ متحرّك ،ومن جانب آخر فإنّ النعم تدعو إلى شكر المنعم فطرياً .
وكذلك فهي دليل على مسألة المعاد من جهات أيضاً:
فتكامل الموجودات في حركتها ومسارها وانبعاث الحياة من الأرض الميتة تقول للإنسان: أيّها الإنسان إنّك ترى مشهد المعاد في فصول كلّ عام أمام ناظريك وتحت قدميك .
من اللازم أيضاً الالتفات إلى أن ( تثير ) من مادّة ( إثارة ) بمعنى النشر والتفريق ،وهي إشارة إلى أنّ توليد الغيوم ناتج عن هبوب الرياح على سطح المحيطات ،لأنّ مسألة حركة الغيوم وردت في الجملة التي بعدها ( فسقناه إلى بلد ميّت ) .
واللطيف ما نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين سأله أحد الصحابة قائلا: يا رسول الله ،كيف يحيي الله الموتى ،وما آية ذلك في خلقه ؟
قال: «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثمّ مررت به يهتزّ خضراً » ؟
قلت: نعم !يا رسول الله .
قال: «فكذلك يحيي الله الموتى ،وتلك آيته في خلقه »{[3572]} .
ولنا بحث آخر حول نفس الموضوع أوردناه عند تفسير الآية ( 48 ) من سورة الروم .