التّفسير
إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه:
ممّا مرّ من تقسيم الناس إلى مجموعتين «المجموعة المؤمنة » و «المجموعة الكافرة » أو «حزب الله » و «حزب الشيطان » ،تنتقل هذه الآيات إلى بيان إحدى الخصائص المهمّة لهاتين المجموعتين والتي هي في الواقع المصدر لسائر برامجهما .
تقول الآية الاُولى: ( أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً ) كمن يرى الحقائق كما هي من حيث الحسن والقبح ؟!
في الحقيقة إنّ هذه القضيّة هي المفتاح لكلّ مصائب الأقوام الضالّة والمعاندة ،الذين يرون أعمالهم القبيحة أعمالا جميلة ،وذلك لانسجامها مع شهواتهم وقلوبهم المعتمة .
بديهي أنّ شخصاً كهذا ،لا يتقبّل نصيحة ،وليس لديه الاستعداد لسماع النقد وليس بحاضر أبداً لتغيير مسيره .كما أنّه لا يناقش أعماله ولا يفكّر بعواقبها الوخيمة .
وأدهى من ذلك وأمرّ أنّهم حينما يدور حديث حول المحسنين والمسيئين ،يعتقدون بأنّ الضمير في الأوّل يعود عليهم ،بينما يعود في المسيئين على المؤمنين الصلحاء !
والعجب من هؤلاء الكفّار المعاندين أنهم عندما يسمعون هذه الآيات تتلى عليهم وهي تتحدّث عن حزب الشيطان ومصيرهم الأسود طبّقوا ذلك على المؤمنين الصالحين ،وعدّوا أنفسهم مصداقاً لحزب الله !!
وتلك مصيبة وفاجعة عظيمة !
أمّا من الذي زيّن سوء أعمال هؤلاء في أنظارهم ؟هل هو الله ،أم هوى النفس ،أم الشيطان ؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ العامل الأصلي لذلك هو الهوى والشيطان ،ولكن لأنّ الله هو الخالق لذلك الأثر في أعمالهم ،فيمكن نسبة ذلك إلى الله تعالى ،لأنّ الإنسان وفي بداية طريق المعاصي يشعر بعدم الإرتياح حين ارتكاب المعصية ،لسلامة فطرته وحيوية وجدانه وسلامة عقله ،ولكن بتكرار تلك الأعمال يقلّ عدم الارتياح إلى أن يصل إلى درجة عدم الاكتراث .ثمّ إذا استمرّ في ذلك الطريق يمسي القبيح جميلا في نظره ،حتّى يصل إلى أن يتوهّم أنّ ذلك من مفاخره وفضائله ،والحال أنّه يغطّ في بِركة آسنة من التعاسة والشقاء .
والملفت للنظر أنّ القرآن عندما يتساءل ( أفمن زيّن له سوء عمله ...) .لا يتعرّض إلى ما يقابل ذلك صراحة ،وكأنّه يريد أن يفسح المجال أمام المستمع لكي يتصوّر اُموراً مختلفة يمكنها أن تكون ما يقابل ذلك ويفهم أكثر وأكثر ،وكأنّه يريد أن يقول: هل أنّ شخصاً كهذا هو كمن أبصر الحقيقة ؟
هل أنّ شخصاً كهذا كمن هو نقي القلب ومشغول دوماً بمحاسبة نفسه ؟.
وهل أنّ هناك أملا بالنجاة لهكذا شخص{[3569]} ؟.
ثمّ يضيف القرآن موضّحاً علّة الفرق بين الفريقين فيقول: ( فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ) .
فإذا زُيّنت الأعمال السيّئة بنظر المجموعة الاُولى ،فإنّ ذلك نتيجة الإضلال الإلهي ،فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل تلك الخاصية في النفس البشرية عند تكرارها للأعمال السيّئة ،بأن تتطبّع عليها وتعتادها وتنسجم معها وتنطبع بطبيعتها .
وهو سبحانه الذي أعطى للمؤمنين الطاهري القلوب نفاذ البصر والبصيرة ،وسمعاً واعياً لإدراك الحقائق كما هي .
وواضح أنّ هذه المشيئة الإلهيّة توأم لحكمته تعالى ،وإنّما تعطي لكلّ ما يناسبه .لذا فإنّ الآية تضيف في الختام: ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) وهذا التعبير يشابه ما ورد في الآية ( 3 ) من سورة الشعراء: ( لعلّك باخع نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين ){[3570]} .
التعبير ب «حسرات » الذي هو «مفعول لأجله » لما قبله في الجملة ،إشارة إلى أنّه ليس عندك عليهم حسرة واحدة ،بل حسرات:
«حسرة » على تضييع نعمة الهداية .«حسرة » على تضييع جوهر الإنسانية ،«حسرة » على تضييع حاسّة التشخيص إلى حدّ رؤية القبيح جميلا ،وأخيراً «حسرة » على الوقوع في نار الغضب والقهر الإلهي .
ولكن لماذا لا ينبغي أن تتحسّر عليهم ؟!ذلك لأجل ( إنّ الله عليم بما يصنعون ) .
واضح من نبرة الآية شدّة تحرّق الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الضالّين والمنحرفين ،وكذلك هي حال القائد الإلهي المخلص يتألّم لعدم تقبّل الناس الحقّ وتسليمهم للباطل ،وضربهم بكلّ أسباب السعادة عرض الجدار ،إلى حدّ كأنّ روحه تريد أن تفارق بدنه .