الآن ،وبعد هذا المبحث التوحيدي ،تشير الآية إلى الاشتباه الخطير الذي وقع فيه المشركون لاعتقادهم بأنّ العزّة تأتيهم من أصنامهم ،وبأنّ الإيمان بالرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيكون سبباً في تخطّف الناس إيّاهم ( إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا ){[3573]} .فتقول الآية: ( من كان يريد العزّة فللّه العزّة جميعاً ) .
«العزّة »: على ما يقول الراغب في مفرداته: حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب ..من قولهم: أرض عزاز ،أي صُلبة .
ولأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تُغلب ،وجميع المخلوقات بحكم محدوديتها قابلة لأن تُغلب ،وعليه فإنّ العزّة جميعها من الله ،وكلّ من اكتسب عزّة فمن بحر عزّته اللامتناهي .
في حديث ينقل عن أنس عن الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «إنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز ،فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز » .
وفي الحقيقة إنّ الإنسان العاقل يجب أن يتزوّد بالماء من منبعه ،لأنّ الماء الصافي والوافر متوفّر هناك ،لا في الأواني الصغيرة المحدودة أو الملوّثة في يد هذا وذاك .
وفي حديث عن الإمام الحسن بن علي ( عليهما السلام ) نقرأ بأنّ «جنادة بن أبي اُميّة » قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة ،من السم الذي سقاه معاوية ( لعنه الله ) ،فقلت: يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك ؟
فقال: «يا عبد الله ،بماذا أعالج الموت ؟
قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون .
ثمّ التفت إليّ وقال: ضمن وصايا عديدة: « ..وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة ،وهيبة بلا سلطان ،فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّ وجلّ » ...الحديث .
ولو لاحظنا بعض الآيات الكريمة في القرآن ،فإنّها تذكر العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ){[3574]} .إذ أنّ الرّسول والمؤمنين اكتسبوا عزّتهم من شعاع عزّة الباري عزّ وجلّ ،وساروا في طريق طاعته .
ثمّ توضّح الآية طريق الوصول إلى ( العزّة ) فيقول تعالى: ( إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه ) .
( الكلم الطيّب ): طيّبٌ بمحتواه ،وذلك لأجل المفاهيم التي تنطبق على الواقع العيني الظاهر المشرق ،وما هو أطهر وأكثر واقعية من ذات الله تعالى ،ومرآة حقّه وعدالته ،وهؤلاء الصلحاء الذين يسلكون طريق نشر ذلك ؟
لذا فقد فسّر «الكلم الطيّب » بأنّه العقائد الصحيحة فيما يخصّ المبدأ والمعاد والنبوّة ،نعم ..فعقيدة صحيحة هكذا تصعد إلى الله ،وتجعل المعتقد بها يحلق هو الآخر ،حتّى يكون في قرب جوار الحقّ تعالى ،وتغمره في عزّة الله ليكون عزيزاً .
بديهي أن ينبت من هذا الجذر الطاهر ،ساق وفروع ،ثمرها العمل الصالح ،وكلّ عمل لائق وبنّاء ومفيد ،سواء كانت دعوة إلى الحقّ ،أو حماية لمظلوم ،أو جهاداً للظلم والطغيان ،أو تقويم النفس والعبادة ،أو تعلّم ،وبالجملة فكلّ عمل خير يدخل في هذا المفهوم الشامل الواسع ،إذا كان لأجله سبحانهفقطولأجل كسب رضاه فهو يصعد إليه ،ويعرج في سماء لطفه سبحانه ويكون سبباً في تكامل ومعراج صاحبه حتّى يجعله أهلا للتعزّز بعزّة الحقّ تعالى .
وذلك هو ما أشارت إليه الآية ( 24 ) من سورة إبراهيم: ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها ) .
وممّا ذكرنا ،يتّضح أنّ ما قال به بعض المفسّرين من أنّ «الكلمة الطيّبة » هي « لا إله إلاّ الله » أو «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر » أو «إثبات الرسالة للرسول محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والولاية والخلافة لعلي ( عليه السلام ) بعد التوحيد » أو ما ورد في بعض الروايات من أنّ «الكلم الطيّب » و «العمل الصالح » هو «ولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) » أو أمثال هذه التفاسير ،فإنّها جميعاً من قبيل بيان المصاديق الأكثر وضوحاً لذلك المفهوم الواسع الشامل ،وليس من قبيل وضع الحدود لذلك المفهوم .إذ أنّ كلّ كلام طيّب وصالح المحتوى يدخل تحت هذا العنوان .
على كلّ حال هو الله سبحانه وتعالى الذي يحيي الأرض الميتة بقطرات المطربمقتضى الآية السابقةهو سبحانه الذي ينمي «الكلام الطيّب » و «العمل الصالح » ويوصله إلى جوار قربه تعالى .
ثمّ تنتقل الآية إلى ما يقابل كلّ ذلك فتقول: ( والذين يمكرون السيّئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ) .
فمع أنّ هؤلاء الفاسدين المفسدين توهّموا أنّهم بالظلم والكذب والتزوير يستطيعون كسب العزّة والمال والثروة والقدرة ،إلاّ أنّهم في النهاية يضعون أنفسهم في قبضة العذاب الإلهي من جهة ،وكلّ جهودهم تذهب أدراج الرياح من جهة اُخرى .
أشخاص قال عنهم القرآن: ( واتّخذوا من دون اللّه آلهةً ليكونوا لهم عزّاً ){[3575]} .ومنافقون اعتقدوا بعزّتهم ،وذلّة المؤمنين ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ){[3576]} .
وآخرون اعتقدوا بأنّ القرب من الفراعنة سبب لعزّتهم ،وأراد غيرهم الكرامة بالظلم والاضطهاد ،لكنّهم يتساقطون دوماً ،والإيمان والعمل الصالح فقط هو الذي يصعد إلى الله سبحانه !
( مكر ): مع أنّ هذه الكلمة لغوياً بمعنى التفكّر في حلّ المشكل ،ولكنّها جاءت في موارد كثيرة بمعنى التفكّر بالحلّ مع اقترانها بالإفساد ،كما في هذه الآية .
( السيّئات ): كلّ القبائح والمذمومات ،أعمّ من القبائح الإعتقادية أو العملية ،وما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المعنى هو المؤامرات التي قام بها المشركون لقتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو إبعاده عن مكّة ،فليس هو إلاّ أحد مصاديق الكلمة دون مفهومها العامّ .
جملة «يبور » من مادّة «بوار » و «بوران » في الأصل بمعنى الكساد المفرط ،ولأنّ مثل هذا الكساد يكون سبباً للهلاك ،فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الهلاك والفناء ،وكما قيل «كسد حتّى فسد » .
ملاحظتان
1العزّة جميعاً من الله عزّ اسمه
ما هي حقيقة العزّة ؟هل هي سوى بلوغ مرحلة المنعة ؟وإن كان كذلك فأين يجب البحث عن العزّة ؟وأي شيء يمكنه أن يعطي للإنسان العزّة ؟!.
يتّضح لنا بالتحليل أنّ حقيقة العزّة بالدرجة الاُولىقدرة تتجلّى في قلب وروح الإنسان ،وتبعده عن الخضوع والتسليم والاستسلام أمام الطغاة والعصاة ،قدرة بامتلاكها لا يخضع الإنسان للشهوات أبداً ،ولن يجد الهوى والهوس طريقاً للتسلّط عليه .
قدرة ترتقي به إلى مستوى الصلابة أمام تأثير زخارف الدنيا .
فهل أنّ هذه القدرة لها منبع آخر غير الايمان بالله ،أي الارتباط بالمنبع الأصلي للقدرة والعزّة ؟
هذا في مرحلة الفكر والإعتقاد والروح ،أمّا في مرحلة العمل فإنّ «العزّة » تنبع من الأعمال السليمة الأصل والدقيقة الاُسلوب ،وبتعبير آخر يمكن تلخيص ذلك ب«العمل الصالح » هذان الاثنان يعطيان الإنسان العظمة والرفعة والعزّة والمنعة .
«السحرة » المعاصرون لفرعون ،شرعوا بحيلهم باسم فرعون وبعزّته ( وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون ){[3577]} .
ولكنّهم هزموا بسرعة أمام عصى موسى ( عليه السلام ) .وبمجرّد أن خرجوا من ذلّة فرعون ،ولجأوا إلى ظلّ التوحيد وآمنوا ،أصبحوا أقوياء لا يمكن هزيمتهم بحيث لم تؤثّر بهم أشدّ تهديدات فرعون ،وقدّموا أيديهم وأرجلهم وحتّى أرواحهم العاشقة الوالهة وتجرّعوا كأس الشهادة ،ودلّلوا بذلك العمل على عدم استسلامهم أمام الترغيب والترهيب ،وعدم انهزامهم ،وأصبح تأريخهم اليوم بالنسبة لنا عالماً من الدروس البليغة .
2الفرق بين «الكلام الطيّب » و «العمل الصالح »
قد يطرح سؤال هو: لماذا تقول الآية السالفة الذكر حول «الكلام الطيّب » ( إليه يصعد الكلم الطيّب ) بينما بالنسبة إلى «العمل الصالح » قالت ( والعمل الصالح يرفعه ) ؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال بأنّ «الكلم الطيّب » إشارة إلى الإيمان والاعتقاد السليم ،وذلك هو عين الصعود إلى الله ،وحقيقة الإيمان ليس سوى ذلك ،ولكن «العمل الصالح » الذي يتقبّله الله تعالى ويضاعف الأجر عليه ،ويعطيه الدوام والبقاء ثمّ يرفعه ( دقّق النظر ) !!.