قوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} منصوب على الحال .و{الْعِزَّةَ} معناها القوة والغلبة .والعز ضد الذل .وهو عزيز أي قوي{[3844]} ؛فلقد كان الكافرون يتعززون بالأصنام كقوله سبحانه وتعالى:{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عِزّا} وكذلك الخائرون والضعفاء والمنافقون ،فإنهم يتعززون بالكافرين من أعداء الله ورسوله كقوله تعالى:{الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا} وبذلك فإنه لا عزة إلا لله ولأوليائه المؤمنين المتقين .فمن ابتغى العزة فلا يطلبها إلا من الله ؛لأن العزة كلها مختصة به سبحانه .سواء في ذلك عزة الدنيا والآخرة .وإنما يتعزز المرء بطاعة الله والتزام شرعه وأوامره وأحكام دينه دون تفريط أو تقصير ؛فإن من يعتصم بحبل الله ولا يزيغ عن منهج الله الحق إلى ملل الكفر والباطل أو الهوى والشهوات فإن الله يعزُّه في الدنيا ؛إذ يجعله مكرما مفضالا في المؤمنين .وكذلك يُعزّه في الآخرة ؛إذ يرفعه إلى مراتب الأبرار الآمنين في عليين .
وفي هذا النص الرباني ما لا يخفى من التنبيه على الاعتزاز بالله وذلك بالإذعان لجلاله العظيم بتمام الخضوع له والطاعة لأمره ؛فالله وحده مصدر العزة في هذه الدنيا ويوم الأشهاد فما ينبغي للمؤمن بعد رسوخ هذه الحقيقة أن يذل خاويا لغير ربه فيسأله الغلبة والاعتزاز وعلو الشأن .إنه لا يستجير بالكافرين الخاسرين طلبا للعزة منهم إلا الخائرون المستضعفون من الناس .
قوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} و{الْكَلِمُ} جمع كلمة وهو الكلام{[3845]} وقد اختلفوا في المراد بالكلم الطيب ؛فقد قيل: هو قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .وقيل: هو لا إله إلا الله .وقيل: كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك .وهذا أولى بالصواب .فإن كل ذكر لله من تلاوة ودعاء واستغفار وتهليل وإنابة ،لهو كلم طيب يصعد إلى الله ؛أي يرتفع إليه .وهو من الصعود بمعنى العروج إلى فوق .
أما العمل الصالح: فهو كل عمل وافق السنة وقَُصد به مرضاة الله .وقوله:{يَرْفَعُهُ} الرافع هو الله .والتقدير: والعمل الصالح يرفعه الله .كما أن الله ،سبحانه ،إليه يصعد الكلم الطيب .وقيل: الهاء في قوله:{يَرْفَعُهُ} تعود على{الْكَلِمُ} .والتقدير: والعمل الصالح يرفع الكلم{[3846]} وهو قول ابن عباس: وفي الحديث:"لا يقبل الله قولا إلا بعمل ،ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ،ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة ".
وجدير بالبيان هنا أن الذي يذكر الله فيقول كلاما طيبا وهو مؤدٍّ لفرائض الله فلا ريب في ارتفاع ما يقوله من طيب الكلام وما يقوم به من عمل .أما إذا لم يؤد فرائض الله من عبادات ونحوها وقد ذكر الله وقال كلاما طيبا من تلاوة وتسبيح وتهليل ونحو ذلك ،فما ينبغي القول إن ذلك كله مردود أو غير متقبَّل ،وإنما يقال متقبَّل ،وهو مكتوب له بالرغم من كونه عاصيا بتركه فرائض الله .وهو بذلك له حسناته وعليه سيئاته ،والله يتقبَّل من المرء ما قدَّم من صالح القول والعمل ،إن اجتنب الشرك .
قوله:{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}{السَّيِّئَاتِ} منصوب على أنهه مفعول لقوله:{يَمْكُرُونَ} أي يعملون السيئات .وقيل: صفة لمصدر محذوف وتقديره: يمكرون المكرات السيئات: ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه{[3847]} والمراد بالذين يمكرون السيئات ،أهل الشرك .وقيل: هم المراؤون بأعمالهم ؛فهم بذلك يمكرون بالناس ؛إذ يوهمونهم أنهم طائعون لله .وهم في الحقيقة بغيضون إليه ،بعيدون من رحمته ورضوانه .وقيل: المراد بهم المشركون .والصواب أنها عامة لتشمل المشركين والمنافقين والمرائين والماكرين الذين يمكرون بالإسلام والمسلمين .أولئك جميعا{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي عذاب جهنم .
قوله:{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}{مَكْرُ} مبتدأ ،وخبره{يبور} هو ضمير فصل بين المبتدأ وخبره{[3848]}{يبور} من البوار وهو الهلاك .والرجل البور: هو الفاسد الهالك الذي لا خير فيه .وكذلك المرأة البور .وقوم بور: أي هلكى .وأباره الله: أي أهلكه .وبار المتاع إذا كسد .وبارت البياعات: كسدت .وبارت الأيِّم إذا لم يُرغَب فيها .وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من بوار الأيم ،وبارت الأرض: إذا لم تزرع .وبار عمله: أي بطل{[3849]} والمراد: أي الرياء ؛فإنهم ماكرون يخادعون الناس بأعمالهم ،فإن أعمالهم صائرة إلى البوار ،وهو الهلاك والبطلان .
وقيل: هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم: فإما إثباته ،أي حبسه .وإما قتله ،أو إخراجُه .وقد مرَّ بيان ذلك في سورة الأنفال .