وبالطبع فإنّ السؤال الأوّل مرتبط بالسؤال الثّاني ،والجواب عليهما سيتّضح خلال الآيات التالية بصورة جيدة ،لأنّ هناك ثلاثة أوامر وردت في الآيات التالية وضحت كلّ شيء ( أنيبوا إلى ربّكم ) والثّانية ( وأسلموا له ) والثّالثة ( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم ) .
هذه الأوامر الثّلاثة تقول: إنّ أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة للجميع من دون أي استثناء ،ولكن شريطة أن يعودوا إلى أنفسهم بعد ارتكاب الذنب ،ويتوجهوا في مسيرهم نحو البارئ عز وجل ،ويستسلموا لأوامره ،ويظهروا صدق توبتهم وإنابتهم بالعمل ،وبهذا الشكل فلا الشرك مستثنى من المغفرةولا غيره ،وكما قلنا فإنّ هذا العفو العام والرحمة الواسعة مشروطان بشروطلا يمكن تجاهلها .
وإذا كانت الآية ( 48 ) من سورة النساء تستثني المشركين من هذا العفو والرحمة ،فإنّها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم ،وليس أُولئك الذين صحوا من غفلتهم واتبعوا سبيل الله ،لأنّ أكثر مسلمي صدر الإسلام كانوا كذلك ،أي أنّهم تركوا عبادة الأصنام والشرك بالله ،وآمنوا بالله الواحد القهار بعد دخولهم الدين الإسلامي .
إذا طالعنا الحالة النفسية عند الكثير من المجرمين بعد ارتكابهم للذنب الكبير ،نرى أن حالة من الألم والندم تصيبهم بحيث لا يتصورون بقاء طريق العودة مفتوحاً أمامهم ،ويعتبرون أنفسهم ملوثين بشكل لا يمكن تطهيره ،ويتساءلون: هل من الممكن أن تغفر ذنوبنا ؟وهل أن الطريق إلى الله مفتوح أمامنا ؟وهل بقي خلفنا جسر غير مدمّر ؟
إنّهم يدركون معنى الآية جيداً ،ومستعدون للتوبة ، ولكنّهم يتصورون استحالة غفران ذنوبهم ،خاصّة إذا كانوا قد تابوا مرات عديدة من قبل ثمّ عادوا إلى ارتكاب الذنب مرّة أخرى .
هذه الآية تعطي الأمل للجميع في أنّ طريق العودة والتوبة مفتوح أمامهم .لذا فإنّ ( وحشي ) المجرم المعروف في التأريخ الإسلامي والذي قتل حمزة سيد الشهداء( عليه السلام ) ،كان خائفاً من عدم قبول توبته ،لأنّ ذنبه كان عظيماً ،مجموعة من المفسّرين قالوا: إن هذه الآية عندما نزلت على الرّسول الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتحت أبواب الرحمة الإلهية أمام وحشي التائب وأمثاله !
ولكن لا يمكن أن تكون هذه الحادثة سبب نزول هذه الآية ،لأن هذه السورة من السور المكّية ،ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآيات ،ولم تكن أيضاً قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي ،وإنّما هي من قبيل تطبيق قانون عام على أحد المصاديق ،وعلى أية حال فإنّ شمول معنى الآية يمكن أن يشخص هذا المعنى .
يتضح ممّا تقدم أنّ إصرار بعض المفسّرين كالآلوسي في تفسيره ( روح المعاني ) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطاً بشيء غير صحيح ،حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة ،لأنّ فيها تعارضاً واضحاً مع الآيات التالية ،والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن إدغامها في بعضها البعض ،ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين ،وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطاً ،بقرائن الآيات التالية ،وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث .ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول: ( وأنيبوا إلى ربّكم ) وأصلحوا أُموركم ومسير حياتكم ( واسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون ) .
/خ55