التّفسير
يوم التلاقي !
هذه الآيات والتي تليها ،هي توضيح وتفسير ( ليوم التلاق ) وهو اسم ليوم القيامة .
في هاتين الآيتين تمّ ذكر بعض خصوصيات القيامة و كلّ واحدة أكثر إثارة من الأُخرى .
يبيّن تعالى أن يوم التلاقي ،هو: ( يوم هم بارزون ) ...إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار ،وكتوطئة له ستزول الموانع المادية كالجبال الراسيات مثلا ،وتصبح الأرض ( قاعاً صفصفاً ) كما يصفها القرآن في الآية ( 106 ) من سورة طه » .
ومن جانب آخر سيخرج الناس من قبورهم ،ثمّ تنكشف الأسرار الباطنية والمخفية: ( يوم تبلى السرائر ){[3902]} .
ويوم تخرج الأرض ما تطويه في بطونها: ( وأخرجت الأرض أثقالها ){[3903]} .
ويوم تنشر صحف الأعمال وينكشف محتواها: ( وإذا الصحف نشرت ){[3904]} .
في يوم التلاق تتجسّد الأعمال التي اقترفها الإنسان وتبدو حاضرة أمامه: ( يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه ){[3905]} .
وفي ذلك اليوم تنكشف الأسرار التي كان يطويها الإنسان بداخله ويتكتم عليها: ( بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ){[3906]} .
وفي ذلك اليوم المهول ستشهد الأعضاء على أعمال الإنسان ،وستشهدأيضاً الأرض وتكشف ما ارتكب عليها: ( يومئذ تحدّث أخبارها ){[3907]} .
في ذلك اليوم سيطوى الكون ،وسيظهر الإنسان بكل وجوده ،ويبرز الكون وما عليه ،ولا تبقى من خافية: ( وبرزوا لله جميعاً ){[3908]} .
إنّهُ منظر مهول ومشهد موحش !!
وَيكفينا لتصور هول ذلك اليوم نتخيّل ...وَ لو للحظة واحدة ...منظر هَذِهِ الدنيا وقد حلّت بها شرائط القيامة ؟لنرى أيّ فزع سينتاب البشرية وتحل بها !وكيف تتقطع العلائق والروابط في ذلك اليوم لذلك على الإنسان أن يستعد ،وأن يعيش بشكل لا يخشى فيه انكشاف المستور من أوضاعه ،و أن تكون أعماله وأفعاله بحيث لا يقلق منها لو ظهرت وانكشفت أمام الملأ .
الوصف الثّاني لذلك اليوم المهول ،هو انكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى شيء منها على الله تعالى: ( لا يخفى على الله منهم شيء ) .
بالطبع ...في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شيء على الله العالم المطلق ،إذ يتساوى لدى ذاته المطلقة غير المتناهية المخفي والظاهر ،والشاهد والغائب .فلماذا إذاً ذكر القرآن الجملة أعلاه على أنّها تفسير لجملة ( يوم هم بارزون ) ؟
إن سبب ذلك يعود إلى أنّ «البروز » في ذلك اليوم يكون مؤكّداً أكثر ،بحيث أنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض .أمّا بالنسبة لله فالمسألةلا تحتاج إلى بحث أو كلام .
الخصوصية الثّالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة لله تعالى ،ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم: ( لمن الملك اليوم ) ؟
يأتي الجواب: ( لله الواحد القهار ) .
مَن الذي يطرح السؤال ،وَ مَن الذي يجيب عليه ؟
الآية لا تتحدّث عن ذلك ،والتفاسير مختلفة في هذا الصدد .
ذهب البعض الى أنّ السؤال يطرح من قبل الله جلّ وعلا ،أمّا الجواب فيأتي من الجميع ،مؤمنين وكافرين{[3909]} .
وذهب آخرون الى أن السؤال والجواب كلاهما من قبل الخالق عزّ وجلّ{[3910]} .
قسم ثالث يعتقد أنّ «المنادي الإلهي » هو الذي يطرح السؤال ،وهو الذي يجيب عليه .
ولكن يبدو من الظاهر أنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين ،بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق ،الملائكة والإنسان ،المؤمن والكافر ،تطرحه جميع ذرات الوجود ،وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم ،بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته ،وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحة .
فلو أصحت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود ،لسمعتها تقول: ( لمن الملك ) وفي الجواب تسمعها نفسها تقول: ( لله الواحد القهّار ) .
وقد نرى في هذه الدنيا نموذجاً مصغراً لذلك ،فعندما ندخل إلى بيت أو مدينة أو بلد معين ،فإنّنا نحس بقدرة شخص معين ،وبانبساط حاكميته ،وكأنّ الجميع يقولونكلّ بلسان حاله: إنّ المالك أو الحاكم هو فلان ،وتشهد على ذلك حتى الجدران !!
وبالطبع ،في هذا اليوم أيضاً تطغى الحاكمية الإلهية على كلّ شيء ،وتبسط قدرتها في كلّ الأرجاء ،لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع جديد ،فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين ،ولا نسمع ضجيج الطواغيت السكارى ،ولا نرى أثراً لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس و الجن .