تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت ،بعض الصفات المهمّة ،فتقول: ( رفيع الدرجات ) فهو تعالى يرفع درجات العباد الصالحين كما في قوله تعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ){[3899]} .
وحتى بين النّبيين فقد فضّل الله بعضهم على بعض بسبب اجتيازهم للامتحان والاختبار أكثر من غيرهم ،فأخلصوا لله تعالى بمراتب أعلى وأفضل: ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ){[3900]} .
لقد استخلف الله الإنسان في هذه الأرض ،وجعل منه خليفته ،وفضّل البعض على البعض الآخر وفقاً لاختلاف الخصائص والقابليات لدى الإنسان: ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ){[3901]} .
فإذا كانت الآية السابقة قد دعت إلى الإخلاص في الدين ،فإنّ الآية التي بين أيدينا تقول: إنّ الله تبارك وتعالى سوف يرفع درجاتكم بمقدار إخلاصكم ،فهو رفيع الدرجات .
إنّ صحة كلّ هذه المعاني منوطة بتفسير ( رفيع ) بالرافع ،إلاّ أنّ البعض ذهب إلى أنّ ( رفيع ) في الآية بمعنى ( المرتفع ) وبناء على هذا المعنى فإنّ ( رفيع الدرجات ) تشير إلى الصفات العالية الرفيعة لله تعالى ،فهو رفيع في علمه ،وفي قدرته ،وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية ،هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث أنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها .
وبحكم أنّ اللغة تعطي صلاحية متساوية للمعنيين الآنفين لكمة ( رفيع ) فإنّ التّفسيرين واردان ،ولكن لأنّ الآية تتحدث عن إعطاء الأجر لعباد الله الصالحين ،والذي هو الدرجات الرفيعة ،لذا فإنّ المعنى الأوّل أظهر .
لكن لا مانع من الجمع بين التّفسيرين ،لأننا نعتقد جواز استخدام اللفظ لأكثر من معنى ،خصوصاً في إطار الآيات التي تشتمل ألفاظها على معاني كبيرة وواسعة .
تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى: ( ذو العرش ) .
فكل عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته ،ولا منازع له في حكومته ،وهذا بحد ذاته ذليل على أنّ تحديد درجات العباد حسب أفضليتهم إنّما يتمّ بقدرته تعالى .
وبما إنّنا تحدثنا بالتفصيل عن «العرش » فلا حاجة هنا للتكرار .
وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي: ( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوّة والوحي ،حيث تحيي هذه الأُمور القلوب ،وتكون في الإنسان كالروح بالنسبة لجسد الإنسان .
إنّ قدرته من جانب ،ودرجاته الرفيعة من جانب آخر ،تقتضي أن يعلن عزّ وجلّ عن برنامجه وتكاليفه عن طريق الوحي ،وهل ثمّة تعبير أجمل من الروح ،هذه الروح التي هي سرّ الحياة والحركة والنشاط والتقدم .
لقد ذكر المفسّرون احتمالات متعدّدة لمعنى الروح ،لكن من خلال القرائن الموجودة في الآية ،وممّا تفيده الآية ( 2 ) من سورة «النحل » التي تقول: ( ينزل الملائكة بالرّوح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذورا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتقون )وكذلك ممّا تفيده آية ( 52 ) من سورة «الشورى » التي تخاطب الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم )وتوضح له نزول القرآن و الإيمان والروح بقوله تعالى: ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) من كلّ ذلك يتبيّن أنّ المقصود بالروح في الآية التي نحن بصددها ،هو الوحي والقرآن والتكليف الإلهي .
تفيد عبارة ( من أمره ) أنّ ملك الوحي المكلّف بإبلاغ هذه الروح ،إنّما يتحدث ويتكلّم بأمر الله لا من عند نفسه .
أمّا قوله تعالى: ( على من يشاء من عباده ) فلا تعني أنّ هبة الوحي تعطى لأي كان ،لأن مشيئته تعالى هي عين حكمته ،وكل من يجده مؤهلا لهذا المنصب يخصه بهذا الأمر ،كما نقرأ في الآية ( 124 ) من سورة الأنعام حيث قوله تعالى: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .
وعندما نجد بعض الرّوايات المروية عن أهل البيت( عليهم السلام ) تُفسّر الروح في الآية أعلاه ب «روح القدس » وتخصّها بالنبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمّة المعصومين من أهل البيت( عليهم السلام ) ،فإنّ ذلك لا يتعارض مع ما قلناه ،لأنّ «روح القدس » هي نفس الروح العلوية المقدسة والمنصب المعنوي العظيم الذي يتجسّد كاملا في الأنبياء والأئمّة المعصومين( عليهم السلام ) ،وكثيراً ما يتجلّى جزء منها في الأشخاص الآخرين الذين متى ما ساعدتهم فيوضات روح القدس فإنّهم سيقومون بأعمال مهمّة ،وتنطق لسانهم بالحكمة .( لمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية 87 من سورة البقرة ) .
والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء ،فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق «الروحي » والمعنوي المتمثل في نزول الوحي .
والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء( عليهم السلام ) ،ولماذا يسلك الأنبياء هذه الطرق الطويلة المليئة بالعقبات والصعاب .
الإجابة يقدمها القرآن في نهاية الآية بقوله: ( لينذر يوم التلاق ) .
أنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم ...
إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين ...
إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته ،ورموز الباطل وزعامته وأنصاره ...
إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين ...
إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم ...
هو يوم التقاء الإنسان والملائكة ...
وأخيراً ،يوم التلاق ،هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة العدل الإلهي .
إذاً ،هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير الإنسان من يوم التلاقي الكبير ...إنّه لأسم عجيب ( يوم التلاق ) الذي انتخبته الآية اسماً ليوم القيامة !