يقول تعالى: ( وقال فرعون ذروني أقتل موسى وَليدع ربّه ) .
نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشاريه أو بعضهم على الأقل كانوا يعارضون قتل موسى ،لخوفهم أن يطلب( عليه السلام ) من ربّه نزول العذاب بساحتهم ،لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية ،إلاّ أنّ فرعونبدافع من غرورهيصر على قتله مهما تكن النتائج .
وبالطبع ،فإنّ سبب امتناع «الملأ » عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير معلوم ،فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أو كلّها صحيحة ...
فقد يكون الخوف من العذاب الإلهيكما احتملناهو السبب .
وقد يكون السبب خشية القوم من تحوّل موسى( عليه السلام ) بعد استشهاده إلى هالة مقدّسة ،وهو ممّا يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته ،خاصة إذا ما وقعت حادثة قتله بعد قضية لقاء موسى مع السحرة وانتصاره الإعجازي عليهم .
وما يؤكّد هذا المعنى هو أنّ موسى جاء في بداية دعوته بمعجزتين كبيرتين ( العصا واليد البيضاء ) وقد دعا هذا الأمر فرعون إلى أن يصف موسى( عليه السلام )بالساحر ،وأن يدعوه للمنازلة مع السحرة في ميقات يوم معلوم ( يوم الزينة ) وكان يأمل الانتصار على موسى( عليه السلام ) عن هذا الطريق ،لذا بقي في انتظار هذا اليوم .
وبمشاهدة هذا الوضع ينتفي احتمال أن يكون فرعون قد صمّم على قتل موسى قبل حادث يوم الزينة خشية من تبدّل دين أهل مصر{[3920]} .
خلاصة القول: إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ موسى( عليه السلام ) مجرّد حادث صغير ومحدود ،بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار ...تيارٌ كبير يصعب السيطرة عليه .
البعض الآخر من المقربين لفرعون ممّن لا يميل إليه ،كان يرغب ببقاء موسى( عليه السلام ) حياً حتى يشغل فكر فرعون دائماً ،كي يتمكن هؤلاء من العيش بارتياح بعيداً عن عيون فرعون ،ويفعلون ما شاؤوا من دون رقابته .
وهذا الأمر يعبّر عن «سليقة » في بلاط السلاطين ،إذ يقوم رجال الحاشيةمن هذا النوعبتحريك بعض أعداء السلطة حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم ،وليأمنوا هم من رقابته عليهم ،كي يفعلوا ما يريدون !
وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى( عليه السلام ) بدليلين ،الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي ،والآخر ذو طابع دنيوي ومادي ،فقال الأول ،كما يحكي القرآن ذلك: ( إنّي أخاف أن يبدّل دينكم ) .
وفي الثّاني: ( أو أن يظهر في الأرض الفساد ) .
فإذا سكتّ أنا وكففت عن قتله ،فسيظهر دين موسى وينفذ في أعماق قلوب أهل مصر ،وستتبدل عباة الأصنام التي تحفظ منافعكم ووحدتكم ؛وإذا سكتّ اليوم فإنّ الزمن كفيل بزيادة أنصار موسى( عليه السلام ) وأتباعه ،وهو أمرٌ تصعب معه مجاهدته في المستقبل ،إذ ستجر الخصومة والصراع معه إلى إراقة الدماء والفساد وشيوع القلق في البلاد ،لذا فالمصلحة تقتضي أن أقتله أسرع ما يمكن .
بالطبع ،لم يكن فرعون يقصد من الدين شيئاً سوى عبادته أو عبادة الأصنام ،وهذا الأسلوب في استخدام لباس الدين واسمه وتبنّي شعاراته ،يستهدف منه السلطان ( فرعون ) تحذير الناس وتجهيلهم من خلال إعطاء طابع الدين على مواقفه وكيانه وسلطته .
أمّا الفساد فهو من وجهة نظر فرعون يعني الثورة ضدّ استكبار فرعون من أجل تحرير عامّة العباد ،ومحو آثار عبادة الأصنام ،وإحياء معالم التوحيد ،وتشييد الحياة على أساسها .
إنّ استخدام لباس الدين ورفع شعاراته ،وكذلك «التدليس » على المصلحين بالاتهامات ،هما من الأساليب التي يعتمد هما الظلمة والطغاة في كلّ عصر ومصر ،وعالمنا اليوم يموج بالأمثلة على ما نقول !
والآن لنر كيف كان رد فعل موسى( عليه السلام ) والذي يبدو أنّه كان حاضر المجلس ؟