المقطع الثّالث: كأمن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا ،إذ تذكر هم الآياتمن خلال خطاب مؤمن آل فرعونبجزء من تأريخهم ،هذا التأريخ الذيلا يبعد كثيراً عنهم ،ولم تمح بعد أواصر الإرتباط الذهني والتأريخي فيما بينهم وبينه؛وهذا الجزء يتمثل في نبوة يوسف ( عليه السلام ) ،الذي يعتبر أحد أجداد موسى ،حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى: ( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ){[3927]} وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنكم: ( فمازلتم في شك ممّا جاءكم به ) .
وشككم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية ،بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها .
ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية ،وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات ،قلتم: ( حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ) .
بناء على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم: ( كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ) .
لقد سلكتم سبيل الإسراف والتعدي على حدود الله تعالى كما قمتم بالتشكيك في كلّ شيء ،حتى غدا ذلك كلّه سبباً لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية ،فسدرتم في وادي الضلال والغي ،كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي .
واليوموالسياق ما زال يحكي خطاب مؤمن آل فرعون لهماتبعتم نفس الأسلوب حيال دعوة موسى( عليه السلام ) ،إذ تركتم البحث في أدلة نبوته وعلائم بعثته ورسالته ،فابتعدت عنكم أنوار الهداية ،وظلت قلوبكم سوداء محجوبة عن إشعاعاتها الهادية الوضّاءة .
الآية الكريمة التي تليها تعرّف «المسرف المرتاب » بقول الله تبارك وتعالى: ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ){[3928]} .
هؤلاء يرفضون آيات الله البينات من دون أي دليل واضح من عقل أو نقل ،بل يستجيبون في ذلك إلى أهوائهم المغرضة ووساوسهم المضلّة الواهية ،كي يستمروا في رفع راية الجدل والمعارضة .
وللكشف عن قبح هذه المواقف عند الله وعند الذين آمنوا ،تقول الآية: ( كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا ){[3929]} .
ذلك لأنّ الجدال بالباطل ( الجدال السلبي ) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي ،يعتبر أساساً لضلال المجادلين وتنكبهم عن جادة الهداية والصواب ،وكذلك في إغواء للآخرين ،حيث تنطفئ أنوار الهداية في تلك الأوساط ،وتتقوى أسس ودعائم حاكمية الباطل .
في النهاية ،وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق ،تقرّر الآية قوله تعالى:( كذلك يطبع الله على كلّ قلب متكبر جبّار ){[3930]} .
أجل ،إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستاراً مظلماً حول فكر الإنسان ،ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح ،بحيث ينتهي الأمر إلى أن يتحول القلب إلى مثل الإناء المغلق ،الذي لا يمكن إفراغه من محتواه الفاسد ،ولا إدخال المحتوى الهادي الصحيح .
إنّ الأشخاص الذين يقفون في وجه الحق و أهله بسبب اتصاف بصفتي التكبر و التجبر ،فإنّ الله تعالى سوف يسلب منهم روح طلب الحقيقة الى درجة أن الحق سيكون مراً في مذاقهم ،والباطل حلواً .
وفي كلّ الأحوال ،لقد قام مؤمن آل فرعون بعمله من خلال الوسائل التي وقفنا عليها آنفاً ،فانتهىكما سيظهر في الآية اللاحقةإلى إجهاض مخطط فرعون في قتل موسى( عليه السلام ) ،أو على الأقل وفّر الوقت الكافي في تأخير تنفيذ هذا المخطط إلى أن استطاع موسى( عليه السلام ) أن يفلت من الخطر .
لقد كانت هذه مهمّة عظيمة أنجزها هذا الرجل المؤمن الشجاع ،الذي انصب جهده في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة الموسوية على إنقاذ حياة كليم الله ( عليه السلام ): وكما سيتضح لاحقاً من احتمال أن هذا الرجل ضحى بحياته أيضاً في هذا السبيل .