سبب النّزول
تذكر التفاسير الشيعية والسنّية روايات متعددة عن سبب نزول الآية الأولى تكاد تكون متشابهة ،من ذلك أنّه جاء في تفسير «الدر المنثور » عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال: إِنّ هذه الآية قد نزلت بشأني .كان أنصاري قد أعد طعاماً دعانا إِليه مع جمع من الناس ،فتناولوا الطعام وشربوا الخمر ،وكان هذا قبل تحريمها في الإِسلام ،وعندما صعدت النشوة إلى رؤوسهم أخذوا يتفاخرون وارتفع بينهم الكلام شيئاً فشيئاً حتى وصل الأمر بأحدهم أن تناول عظم بعير فضربني به على أنفي فشجه فقمت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحكيت له ما جرى ،فنزلت الآية المذكورة .
وفي «مسند أحمد » و«سنن أبي داود » و«النسائي » و«الترمذي » أنّ عمر ( وكان يكثر من الخمر كما جاء في تفسير «في ظلال القرآن » ج 3 ،ص 33 ) كان يدعو الله أن ينزل حكماً واضحاً في الخمر ،وعندما نزلت الآية ( 219 ) من سورة البقرة ( يسألونك عن الخمر والميسر ...) قرأها رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ولكنّه ظل يكرر دعاءه ويطلب مزيداً من التوضيح حتى نزلت الآية ( 43 ) من سورة النساء: ( يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى ) فقرأها رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )أيضاً ،غير أنّه استمر في دعاءه ،حتى نزلت الآية التي نحن بصددها موضحة الحكم بشكل كامل ،وعندما قرأها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على عمر ،فقال: انتهينا انتهينا{[1112]} !
التّفسير
مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي:
سبق أنّ ذكرنا في المجلد الثّالث من هذا التّفسير في ذيل الآية ( 43 ) من سورة النساء ،إِنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإِسلام كانت منتشرة انتشارا أشبه بالوباء العام ،حتى قيل: أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصوراً على ثلاثة: الشعر والخمر والغزو .
ويستفاد من بعض الرّوايات ،أنّه حتى بعد تحريم الخمر فإن الإِقلاع عنها كان شاقّاً على بعض المسلمين ،حتى قالوا: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر{[1113]} !
من الواضح أنّ الإِسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والاجتماعية بنظر الاعتبار لتعذر الأمر وشق تطبيق التحريم ،لذلك اتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإِعداد الأفكار والأذهان لاقتلاع هذه الآفة من جذورها ،وهي العادة التي كانت قد تأصلت في نفوسهم وعروقهم ،ففي أوّل الأمر وردت إِشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر ،كما في الآية ( 67 ) من سورة النحل: ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ) .
فهنا «سكر » وتعني الشراب المسكر الذي كانوا يستخرجونه من التمر والعنب ،قد وضع في قبال الرزق الحسن ،فاعتبره شراباً غير طيب بخلاف الرزق الحسن ،إِلاّ أنّ تلك العادة الخبيثةعادة معاقرة الخمرةكانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإِشارات ،ثمّ أنّ الخمر كانت تؤلف جانباً من دخلهم الاقتصادي لذلك ،عندما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإِسلامية ،نزلت آية ثانية أشد في تحريم الخمر من الأولى ،لكي تهيئ الأذهان أكثر إلى التحريم النهائي ،تلك هي الآية ( 219 ) من سورة البقرة: ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إِثمّ كبير ومنافع للناس وإِثمهما أكبر من نفعهما ) .
فها هنا إِشارة إلى منافع الخمر الاقتصادية لبعض المجتمعات ،كالمجتمع الجاهلي ،مصحوبة بإشارة إلى أخطارها الكبيرة ومضارها التي تفوق كثيراً منافعها الاقتصادية .
ثمّ في الآية ( 43 ) من سورة النساء: ( يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) يأمر الله المسلمين أمراً صريحاً بأن لا يقيموا الصّلاة وهم سكارى حتى يدركوا ما يقولونه أمام الله .
واضح أنّ هذا لم يكن يعني أنّ شرب الخمر في غير الصّلاة جايز ،بل هي مسألة التدرج في تحريم الخمر مرحلة مرحلة ،أي أنّ هذه الآية كأنّها تلتزم الصمت ولا تقول شيئاً صراحة في غير مواقع الصّلاة .
إِنّ تقدم المسلمين في التعرف على أحكام الإِسلام واستعدادهم الفكري لاستئصال هذه المفسدة الاجتماعية الكبيرة التي كانت متعمقة في نفوسهم ،أصبحا سبباً في نزول آية صريحة تماماً في تحريم الخمر حتى سدت الطريق أمام الذين كانوا يتصيدون الأعذار والمسوغات ،وهذه الآية هي موضوع البحث .
وإِنّه لمما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبر عنه في هذه الآية بصورة متنوعة:
1فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين: ( يا أيّها الذين آمنوا ) أي أنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإِيمان .
2استعمال «إِنّما » التي تعني الحصر والتوكيد .
3وضعت الخمر والقمار إلى جانب الأنصاب{[1114]} ( وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام ) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلان ضرراً عن عبادة الأصنام ،ولهذا جاء في حديث شريف أنّ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: «شارب الخمر كعابد الوثن »{[1115]} .
4الخمر والقمار وعبادة الأصنام ،والإِستقسام والأزلام ( ضرب من اليانصيب ){[1116]}كلها قد اعتبرها القرآن رجساً وخبثاً: ( إِنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس ) .
5وهذه الأعمال القبيحة كلّها من أعمال الشيطان: ( من عمل الشيطان ) .
6وأخيراً يصدر الأمر القاطع الواجب الإِتباع: ( فاجتنبوه ) .
لابدّ من التنويه بأنّ لتعبير «فاجتنبوه » مفهوماً أبعد ،إِذ أنّ الاجتناب يعني الابتعاد والانفصال وعدم الاقتراب ،ممّا يكون أشد وأقطع من مجرّد النهي عن شرب الخمر .
7وفي الختام يقول تعالى أن ذلك: ( لعلكم تفلحون ) أي لا فلاح لكم بغير ذلك .
/خ92