التّفسير
والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون:
مرّة أخرى تتحدّث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة الله في عالم الخلق ،وهي في الحقيقة تتمّة لما ورد في الآيتين ( 20 ) و21 ) من هذه السورة في شأن آياته في الأرض وفي نفس «الإنسان » ووجودهوهي ضمناً دليل على قدرة الله على المعاد والحياة فتقول أوّلا: ( والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ) .
«الأيد » على وزن الصيد ،معناه القدرة والقوّةوقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن المجيد ،وهو هنا بمعنى قدرة الله المطلقة العظيمة في خلق السماوات !
ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جليّة في عظمة السماوات ونظامها الخاصّ الحاكم عليها أيضاً{[4721]} .
وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من ( وإنّا لموسعون ):
فقال بعضهم معناه توسعة الرزق من قِبَلِ الله على العباد بواسطة نزول الغيث ،وقال بعضهم معناه توسعة الرزق من جميع الجهات ،وقال بعضهم معناه غنى الله وعدم حاجته ،لأنّ خزائنه من السعة بحيث لا تنفذ ولا تنقص مهما كان عطاؤه !
إلاّ أنّه مع ملاحظة موضوع خلق السماء في الجملة السابقة ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما اكتشفه العلماء من اتّساع العالم عن طريق المشاهدات الحسّية المؤيّدة ،يمكن الوقوف على معنى أكثر لطافةً لهذه الآية ،وهو أنّ الله خلق السماوات ويوسعها دائماً .
والعلم الحديث [ المعاصر] يقول ليست الكرة الأرضية وحدها تتضخّم وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجاً ،بل السماء أيضاً في اتّساع دائم ،أي أنّ بعض النجوم المستقرّة في المجرّات تبتعد عن مركز مجرّاتها بسرعة هائلة حتّى أنّ هذه السرعة لها أثرها في الاتساع في كثير من المواقع !.
ونقرأ في كتاب «حدود النجوم » بقلم الكاتب «فِرد هويل »: أنّ أقصى سرعة لابتعاد النجوم عن مركزها حتّى الآن 66 ألف كيلومتر في الثانية ،والمجرّات التي هي أبعد منهافي نظرناومض نورها قليل جدّاً حتّى أنّه من الصعب تحديد سرعتها ،والصور الملتقطة من السماء تدلّ على أهميّة هذا الكشف وأنّ الفاصلة ما بين هذه المجرّات تتّسع أكثر من المجرّات القريبة منّا بسرعة{[4722]} .
ثمّ يتحدّث المؤلّف عن سرعة هذه المجرّات «السنبلة والإكليل والشجاع وغيرها » فيبيّن سرعتها العجيبة المذهلة في هذا الكتاب{[4723]} .
ولنصغ إلى بعض العبارات للاُستاذ «جان الدر » إذ يقول:
«إنّ أحدث وأدقّ تقدير طول الأمواج التي تبثّها النجوم يكشف الستار عن وجه حقيقة عجيبة ومحيّرة أي أنّها تكشف لنا أنّ مجموع النجوم التي يحويها العالم تبتعد عن مركزها بسرعة دائماً وكلّما كانت الفاصلة بينها وبين مركزها ازدادت سرعتها .
فكأنّ جميع النجوم كانت مجتمعة في هذا المركز ثمّ تفرّقت عنه مجاميع كبيرة من النجوم واتّجه كلّ منها إلى اتّجاه خاصّ » .
ويستنتج العلماء من ذلك أنّ العالم كانت له نقطة بداية وشروع{[4724]} .
ويقول «جورج جاموف » في كتاب خلق العالم في هذا الصدد «إنّ فضاء العالم المتشكّل من ملياردات المجرّات في حالة انبساط سريعة ،والحقيقة هي أنّ عالمنا ليس في حالة من السكون ،بل إنبساطه مقطوع به ..والإذعان إلى أنّ عالمنا منبسط يهيئ المفتاح لخزينة أسرار معرفة العالم لأنّه إذا كان العالم الآن في حالة الانبساط فيلزم أن يكون في زمان ما في حالة انقباض شديد{[4725]} .
وليس العلماء المذكورون آنفاً يعترفون بهذه الحقيقة فحسب ..فإنّ هناك آخرين ذكروا هذا المعنى في كتاباتهم ويجرّنا نقل كلماتهم إلى الإطالة .
وممّا يستجلب النظر أنّ التعبير ب ( إنّا لموسعون ) دالّة على الدوام والاستمرار ،فهي جملة اسمية ذات اسم فاعل ،كما أنّها تدلّ على أنّ هذا الاتساع موجود دائماً وكان ولا يزال ،وهذا يؤيّد تماماً ما وصل إليه العلم الحديث أنّ جميع النجوم والمجرّات كانت مجتمعة في البداية في مركز واحد «بوزن خاصّ له ثقل خارق » ثمّ انفجرت انفجارا عظيماً مثيراً ( مرعباً ) وعلى أثر ذلك تلاشت أجزاء العالم وظهرت بصورة كرات وهي بسرعتها في حالة الاتساع والابتعاد ( عن المركز ) .
وأمّا التعبير الوارد في شأن خلق الأرض ( فنعم الماهدون ) ففي كلمة «ماهدون » لطافة تدلّ على أنّ الله مهّد الأرض بجميع وسائل الراحة للإنسان ،لأنّ «الماهد » مأخوذ من المهد ،ومعناه ما يعدّ للطفل من الفراش أو أي محل للاستراحة ،فمثل هذا المحل ينبغي أن يكون هادئاً محفوظاً ليّناً دافئاً مطمئناً ،وجميع هذه الأمور متوفّرة في الأرض !.
وبأمر الله أضحت الحجارة ليّنة وتبدلّت إلى تراب هذا من جهة ،وصلابة الجبال وقشر الأرض القوي من جهة ثانية جعلت الأرض تقاوم الجزر والمدّ ،ومن جهة ثالثة فإنّ الغلاف الجوّي المحيط بالأرض يخفّف من وطأة حرارة الشمس ويحفظها وهو بمثابة اللحاف لها كما أنّه يصدّ النيازك والأحجار العظيمة التي تهوي من السماء إلى الأرض فيمنعها من النفوذ إليها فتتلاشى عنده وتتحوّل رماداً .
وهكذا فإنّ الله هيّأ جميع وسائل الراحة لاستقبال الإنسان الذي هو ضيف الله في هذه الكرة الأرضية .