التّفسير
قصّة قوم نوح عبرة وعظة:
جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ الله سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذاراً وتوضيحاً ( للكفّار والمجرمين ) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدّي بهم إلاّ إلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة .
وفي هذه السورة ،إكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة ،في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداء من قوم نوح كما في قوله تعالى: ( كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدُجر ) .فمضافاً إلى تكذيبه واتهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الاستمرار في أداء رسالته .
فتارةً يقولون له مهدّدين ومنذرين ( قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين ){[4860]} .
وتارةً أخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتّى يفقد وعيه ،ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتّى يقول: «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون »{[4861]} .
وخلاصة القول فإنّ قوم نوح مارسوا كلّ وسيلة لأذى نبيّهم ،ومع ذلك فإنّه لم يتوقّف عن التبليغ والإرشاد أملا في هدايتهم .
والجدير بالذكر أنّنا نلاحظ أنّ لفظ ( التكذيب ) قد ورد مرّتين ،ولعلّ السبب أنّه ورد في الحالة الأولى ( مختصراً ) وفي الثانية ( مفصّلا ) .
والتعبير ب «عبدنا » إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرّد شخص «نوح » .
كلمة ( وازدجر ) أصلها ( زجر ) بمعنى الطرد ،وهو الإبعاد المقترن بصوت شديد ،كما أنّه يطلق على كلّ عمل يراد منه منع الشخص من الاستمرار به .
والظريف في هذه الآية أنّ الفعل ( قالوا ) أتى بصورة فعل معلوم ( وازدجر ) بصيغة فعل مجهول ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّ عدم ذكر الفاعل هنا للترفّع عن ذكر قوم نوح بسبب سوء وقبح الأعمال التي مارسوها والتي كانت أقذر وأقبح من أقوالهم ،ممّا يكون سبباً في عدم ذكرهم بالصيغة المعلومة كما في قوله تعالى: ( قالوا ) .
ثمّ يضيف تعالى أنّ نوح عندما يئس من هداية قومه تماماً: ( فدعا ربّه أنّي مغلوب فانتصر ){[4862]} .
والغلبة المذكورة في الآية الكريمة لم تكن غلبة في الحجّة والدليل أو البرهان على عدم صحّة الدعوة ،وإنّما كانت تتجسّد بالظلم والجناية والتكذيب والإنكار وأنواع الزجر والضغوط ...ولهذا فإنّ هؤلاء القوم لا يستحقّون البقاء ،فانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم .
نعم ،فهذا النّبي العظيم كان يطلب من الله المغفرة لقومه ما دام يأمل في هدايتهم وصلاحهم ،ولكن عندما يئس منهم غضب عليهم ولعنهم ودعا ربّه أن ينتقم منهم .