آخر آية مورد البحثوالتي هي آخر آية من سورة المجادلةتعدّ من أقوى الآيات القرآنية التي تحذّر المؤمنين من إمكانية الجمع بين حبّ الله وحبّ أعدائه ،إذ لابدّ من اختيار طريق واحد لا غير ،وإذا ما كانوا حقّاً مؤمنين صادقين فعليهم اجتناب حبّ أعداء الله ،يقول تعالى:{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخرين يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم} .
نعم ،لا يجتمع حبّان متضادّان في قلب واحد ،والذين يدّعون إمكانية الجمع بين الاثنين ،فإنّهم إمّا ضعفاء الإيمان أو منافقون ،ولذلك نلاحظ في الغزوات الإسلامية أنّ جمعاً من أقرباء المسلمين كانوا في صفّ المخالفين والأعداء ،ومع ذلك قاتلهم المسلمون حتّى قتلوا قسماً منهم .
إنّ حبّ الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة شيء ممدوح ،ودليل على عمق العواطف الإنسانية ،إلاّ أنّ هذه المحبّة حينما تكون بعيدة عن حبّ الله فإنّها ستفقد خاصيّتها .
وطبيعي أنّ من يتعلّق بهم الإنسان ليس مختصاً بالأقسام الأربعة التي استعرضتها الآية الكريمة ،ولكن هؤلاء أقرب عاطفياً من غيرهم للإنسان ،وبملاحظة الموقف من هؤلاء سيتّضح الموقف من الآخرين .
ولذلك لم يأت الحديث عن الزوجات والأموال والتجارة والممتلكات ،في حين أنّ ذلك قد لوحظ في الآية ( 24 ) من سورة التوبة ،حيث يقول سبحانه:{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} .
والسبب الآخر في عدم ذكر المتعلّقات الأخرى بالإنسان في الآية مورد البحث ،هو ما ورد في سبب نزول الآية الكريمة والتي من جملتها أنّ «حاطب بن أبي بلتعة » كتب رسالة إلى أهل مكّة ينذرهم بقدوم رسول الله إليهم ،ولمّا انكشفت الوشاية وعرف أنّ حاطب بن أبي بلتعة وراء هذا الأمر ،اعتذر قائلا: «أهلي بمكّة أحببت أن يحوطوهم بيد تكون لي عندهم »{[5180]} .
وقيل: إنّ هذه الآية قد نزلت بشأن «عبد الله بن أُبي » ،الذي كان له ولد مؤمن أراد الخير لأبيه ،حيث رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوماً يشرب الماء ،فطلب من رسول الله سؤره المتبقّي في الإناء ليعطيه لأبيه ،عسى أن يطهّر قلبه ،إلاّ أنّ الأب امتنع من شربه وتجاسر على رسول الله .عند ذلك جاء الولد يطلب من رسول الله الإذن في قتل أبيه ،فلم يسمح له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك وقال: «بل ترفّق به » يداريه ،( وأن يتبرّأ من أعماله في قلبه ) .
ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة التي سخّرت قلوبها لعشق الله تعالى ،حيث يستعرض خمسة من أوصافهم والتي يمثّل بعضها مدداً وتوفيقاً من الله تعالى ،والآخر نتيجة العمل الخالص له سبحانه ...
وفي بيان القسم الأوّل والثاني يقول تعالى:{أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه} .
ومن الطبيعي أنّ هذا الإمداد واللطف الإلهي لا يتنافى أبداً مع أصل حرية الإرادة واختيار الإنسان ،لأنّ الخطوات الأولى في ترك أعداء الله قد قرّرها المؤمنون ابتداء ،ثمّ جاء الإمداد الإلهي بصورة استقرار الإيمان حيث عبّر عنه ب ( كتب ) .
هل هذه الروح الإلهية التي يؤيّد الله سبحانه المؤمنين بها هي تقوية الاُسس الإيمانية ،أو أنّها الدلائل العقلية ،أو القرآن ،أو أنّها ملك إلهي عظيم يسمّى بالروح ؟ذكرت لذلك احتمالات وتفاسير مختلفة ،إلاّ أنّه يمكن الجمع بينهما ،وخلاصة الأمر أنّ هذه الروح نوع من الحياة المعنوية الجديدة التي أفاضها الله تعالى على المؤمنين .
ويقول تعالى في ثالث مرحلة:{ويدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} .
ويضيف في رابع مرحلة لهم:{رضي الله عنهم ورضوا عنه} .
إنّ أعظم ثواب معنوي وجزاء روحاني لأصحاب الجنّة في مقابل النعم الماديّة العظيمة في القيامة من جنان وحور وقصور هو شعورهم وإحساسهم أنّ الله راض عنهم وأنّ رضى مولاهم ومعبودهم يعني أنّهم مقبولون عنده ،وفي كنف حمايته وأمنه ،حيث يجلسهم على بساط قربه ،وهذا أعظم إحساس ينتابهم ،ونتيجته رضاهم الكامل عن الله سبحانه .
نعم ،لا تصل أي نعمة إلى هذا الرضا ذي الجانبين المادّي والمعنوي ،والذي هو مفتاح للهبات والعطايا الإلهية الأخرى ،لأنّه سبحانه عندما يرضى عن عبد فإنّه يعطيه ما يطلب منه ،فهو القادر والكريم .
وما أروع التعبير القرآني:{رضي الله عنهم ورضوا عنه} أي أنّ مقامهم رفيع إلى درجة بحيث أنّ أسماءهم تكون مقترنة باسمه ،ورضاهم إلى جانب رضاه تعالى .
وفي آخر مرحلة يضيف تعالى بصورة إخبار عام يحكي عن نعم وهبات اُخرى حيث يقول:{أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون} .
وليس المقصود بالفلاح هنا ما يكون في عالم الآخرة ونيل النعم المادية والمعنوية في يوم القيامة فحسب ،بل كما جاء في الآيات السابقة أنّ الله تعالى ينصرهم بلطفه في هذه الدنيا أيضاً على أعدائهم وستكون بأيديهم حكومة الحقّ والعدل التي تستوعب هذا العالم أخيراً .
/خ22
نهاية سورة المجادلة.