والآية اللاحقة في الحقيقة دليل على هذا المعنى حيث يقول سبحانه:{كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إنّ الله قوي عزيز} .
وبنفس القدر الذي يكون فيه الله قويّاً عزيزاً فإنّ أعداءه يكونون ضعفاء أذلاّء ،وهذا بنفسه بمثابة الدليل على ما ورد في الآية السابقة من وصف الأعداء بأنّهم{في الأذلّين} .
والتعبير ب ( كتب ) يعني التأكيد على أنّ الانتصار قطعي .
وجملة «لأغلبنّ » مع ( لام التأكيد ) و ( نون التوكيد الثقيلة ) ،هي دلالة تأكيد هذا النصر بصورة لا يكون معه أي مجال للشكّ والريبة .
وهذا التشبيه هو نفس الذي ورد في قوله تعالى:{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ،إنّهم لهم المنصورون ،وإنّ جندنا لهم الغالبون}{[5175]} .
ولقد اتّضح على مرّ العصور هذا الانتصار للمرسلين الإلهيين في أوجه مختلفة ،سواء في أنواع العذاب الذي أصاب أعداءهم وصوره المختلفة،كطوفان نوح وصاعقة عاد وثمود ،والزلازل المدمّرة لقوم لوط وما إلى ذلك ،وكذلك في الانتصارات في الحروب المختلفة كغزوات بدر وحنين وفتح مكّة ،وسائر غزوات رسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وأهمّ من ذلك كلّه انتصارهم الفكري والمنطقي على أفكار الشيطان وأعداء الحقّ والعدالة ،ومن هنا يتّضح الجواب على تساؤل من يقول: إذا كانت هذه الوعود قطعيّة فلماذا استشهد الكثير من الرسل الإلهيين والأئمّة المعصومين والمؤمنين الحقيقيين دون تحقيق النصر ؟ .
هؤلاء المنتقدين والمتسائلين لم يشخّصوا في الحقيقة معنى الانتصار بصورة صحيحة ،فمثلا هل يمكن أن نتصوّر أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) قد اندحر لأنّه استشهد في كربلاء هو وأصحابه ،في حين نعلم جيّداً بأنّه ( عليه السلام ) قد حقّق هدفه النهائي في فضح بني اُميّة ،وبنى صرح العقيدة والحرية ،وأعطى الدروس لكلّ أحرار العالم ،وإنّه يعتبر الآن زعيم أحرار عالم الإنسانية وسيّد شهداء الدنيا ،بالإضافة إلى انتصار خطّه الفكري ومنهجه بين أوساط مجموعة عظيمة من الناس ؟{[5176]} .
والجدير بالذكر أنّ هذا الانتصار القطعي ثابت وفقاً للوعد الإلهي بالنصر للسائرين على خطّ الأنبياء والرسالة ،وهذا يعني انتصار مضمون وأكيد من قبل الله تعالى ،كما في قوله عز وجل:{إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}{[5177]} .
ومن الطبيعي أنّ كلّ من يطلب العون من الله فإنّ الله سوف ينصره ،إلاّ أنّه يجب ألاّ ننسى أنّ هذا الوعد الحقيقي لله سبحانه لن يكون بدون قيد أو شرط ،حيث أنّ شرطه الإيمان وآثاره ،شرطه ألاّ يجد الضعف طريقه إلى نفوسنا ،ولا نخاف ولا نحزن من المصائب ،ونجسّد قوله تعالى:{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}{[5178]} .
والشرط الآخر أن نبدأ التغيير من داخل نفوسنا ،لأنّ الله تعالى لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم قال تعالى:{ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم}{[5179]} .
كما يجب أن نوثّق علاقتنا بالسلسلة المرتبطة بالخطّ الإلهي ونوحّد صفوفنا ،ونجنّد قوانا ونخلص نيّاتنا ،ونكون مطمئنّين بأنّ كلّما كان العدو قويّاً ،وكنّا قليلي العدّة والعدد ..فإنّنا سننتصر بالجهاد والسعي والتوكّل على الله تعالى .
وذكر بعض المفسّرين أنّ سبب نزول الآية أعلاه أنّ قسماً من المسلمين تنبّأوا أنّ الله سيفتح لهم أرض الروم وفارس ،بعد ما شاهدوا بعض قرى الحجاز ،إلاّ أنّ المنافقين والمرجفين قالوا لهم: أتتصوّرون أنّ فارس والروم كقرى الحجاز ،وأنّ بإمكانهم فتحها ،عند ذلك نزلت الآية أعلاه ووعدتهم بالنصر .
/خ22