وفي الآية التي تليها إِكمال للبحث ،فيقول: ( وهو القاهر فوق عباده ) .
«القاهر » و«الغالب » وإن كانا بمعنى واحد ،إِلاّ أنّهما من جذرين مختلفين ،«القهر » يطلق على ذلك النصر الذي يتحقق دون أن يتمكن الطرف المقهور من إِبداء أية مقاومة ،وفي كلمة «الغلبة » لا يوجد هذا المعنى ،وقد تحصل بعد المقاومة ،وبعبارة أُخرى: القاهر يقال لمن يكون تسلطه على الطرف الآخر من الشمول بحيث إنّه لا يستطيع المقاومة مطلقاً كصبّ سطل من الماء على جذوة صغيرة من النّار فيطفئها فوراً .
يرى بعض المفسّرين أنّ «القهر » تستعمل حيث يكون المقهور كائناً عاقلا ،ولكن «الغلبة » أوسع منها وتشمل النصر على الكائنات غير العاقلة أيضاً{[1147]} .
وعليه إِذا كانت الآية السابقة تشير إِلى شمول قدرة الله إزاء المعبودات الزائفة الأُخرى وأصحاب القوّة ،فذلك لا يعني أنّه مضطر إِلى الدخول مدّة في صراع مع تلك القوى كي يتغلب عليها ،بل يعني أنّ قدرته قاهرة ،وقد جاء تعبير ( فوق عباده ) لتأكيد هذا المعنى .
وعلى هذا ،كيف يمكن لإِنسان واع أن يعرض عن ربّ العالمين ويتجه إِلى كائنات وأشخاص لا يملكون بذواتهم أية قدرة ،وما يملكونه من قوّة زهيدة إِنّما مصدرها الله أيضاً .
ولإِزالة كل وهم قد يخطر لأحدهم بأنّ الله قد يسيء استعمال قدرته غير المتناهية كما هو الحال في ذوي القدرة من البشر ،يقول القرآن: ( وهو الحكيم الخبير ) أي أنّه صاحب حكمة وكل أعماله محسوبة ،لأنه خبير وعالم ولا يخطئ في استعمال قدرته أبداً .
ونقرأ في حالات «فرعون » أنّه عندما هدد بقتل بني إِسرائيل ،قال: ( وإنّا فوقهم قاهرون ){[1148]} أي أنّه اتّخذ من قدرته القاهرةوإن تكن ضعيفةوسيلة للظلم وغمط حقوق الآخرين ،إِلاّ أنّ الله الحكيم الخبير بتلك القدرة القاهرة منزّه عن أن يظلم حتى أصغر مخلوقاته .
ومن نافلة القول أنّ تعبير ( فوق عباده ) هو التفوق في المقام لا في المكان ،إِذ ليس لله مكان محدد .
ومن العجيب جداً أنّ بعض ذوي العقول المتحجرة اتّخذ من هذه الآية دليلا على تجسيم الله سبحانه ،على الرغم من عدم وجود أي شك في أنّ هذا التعبير معنوي يدل على تفوق الله من حيث القدرة على عبيده وحتى فرعونمع كونه بشراً ذا جسميستعمل الكلمة نفسها لإِظهار تفوقه السلطوي ،لا تفوقه المكاني ( تأمل بدقّة ) .