ويلقي القرآن الضوء في الآية اللاحقة على طريق النجاة من النار حيث يقول: ( يا أيّها الناس توبوا إلى الله توبةً نصوحاً ) .
نعم .إنّ أوّل خطوة على طريق النجاة هي التوبة والإقلاع عن الذنب ،التوبة التي يكون هدفها رضا الله والخوف منه .التوبة الخالصة من أي هدف آخر كالخوف من الآثار الاجتماعية والآثار الدنيوية للذنوب .وأخيراً التوبة التي يفارق بها الإنسان الذنب ويتركه إلى الأبد .
ومن المعلوم أنّ حقيقة التوبة هي الندم على الذنب ،وشرطها التصميم على الترك في المستقبل .وأمّا إذا كان العمل قابلا لأن يجبر ويعوّض فلابدّ من الجبران والتعويض ،والتعبير ب ( يكفّر عنكم ) إشارة إلى هذا المعنى .وبناءً على هذا يمكننا تلخيص أركان التوبة بخمسة اُمور ( ترك الذنب ،الندم ،التصميم على الاجتناب في المستقبل ،جبران ما مضى ،الاستغفار ) .
«نصوح » من مادّة نصح ،بمعنى طلب الخير بإخلاص ،ولذلك يقال للعسل الخالص بأنّه ( ناصح ) وبما أنّ من يريد الخير واقعاً يجب أن يكون عمله توأماً للإتقان جاءت كلمة «نصح » أحياناً بهذا المعنى ،ولذا يقال للبناء المتين بأنّه «نصاح »على وزن كتابويقال للخيّاط «ناصح » ،وكلا المعنيينأي الخلوص والمتانةيجب توفّرهما في التوبة النصوح{[5340]} .
وأمّا حول المعنى الحقيقي للتوبة النصوح ؟فقد وردت تفاسير مختلفة ومتعدّدة حتّى أوصلها البعض إلى 23 تفسيراً{[5341]} .
غير أنّ جميع هذه التفاسير تعود إلى حقيقة واحدة وفروعها والأمور المتعلّقة بها وشرائطها المختلفة .
ومن هذه التفاسير القول بأنّ التوبة ( النصوح ) يجب أن تتوفّر فيها أربعة شروط: الندم الداخلي ،الاستغفار باللسان ،ترك الذنب ،والتصميم على الاجتناب في المستقبل .
وقال البعض الآخر بأنّها ( أي التوبة النصوح ) ذات شروط ثلاثة ( الخوف من عدم قبولها ،والأمل بقبولها ،والاستمرار على طاعة الله .
أو أنّ التوبة «النصوح » التي تجعل الذنوب دائماً أمام أعين أصحابها ،ليشعر الإنسان بالخجل منها .
أو أنّها تعني إرجاع المظالم والحقوق إلى أصحابها ،وطلب التحليل وبراءة الذمّة من المظلومين ،والمداومة على طاعة الله .
أو هي التي تشتمل على أمور ثلاثة: قلّة الأكل ،قلّة القول ،قلّة النوم .
أو التوبة النصوح هي التي يرافقها بكاء العين ،واشمئزاز القلب من الذنوب وما إلى ذلك من فروع التوبة الواقعية وهي التوبة الخالصة التامّة الكاملة .
جاء في حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما سأله معاذ بن جبل عن «التوبة النصوح » أجابه قائلا: «أن يتوب التائب ثمّ لا يرجع في الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع »{[5342]} .
وبهذا التعبير اللطيف يتّضح أنّ التوبة يجب أن تحدث انقلابا في داخل النفس الإنسانية ،وتسدّ عليها أي طريق للعودة إلى الذنب ،وتجعل من الرجوع أمراً مستحيلا كما يستحيل إرجاع اللبن إلى الضرع والثدي .
وقد جاء هذا المعنى في روايات أخرى ،وكلّها توضّح الدرجة العالية للتوبة النصوح ،فإنّ الرجوع ممكن في المراتب الدنيا من التوبة ،وتتكرّر التوبة حتّى يصل الإنسان إلى المرحلة التي لا يعود بعدها إلى الذنب .
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى آثار التوبة الصادقة النصوح بقوله: ( عسى ربّكم أن يكفّر عنكم سيّئاتكم ) .
( ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار ) .
( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) .
( نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) ويضيء لهم طريقهم في المحشر ويوصلهم إلى الجنّة .
وهنا يتوجّهون إلى الله بطلب العفو: ( ويقولون ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنّك على كلّ شيء قدير ) .
وبذلك تكون التوبة ( النصوح ) لها خمس ثمرات مهمّة:
الأولى: غفران الذنوب والسيّئات .
الثانية: دخول الجنّة المملوءة بنعم الله .
الثالثة: عدم الفضيحة في ذلك اليوم العصيب الذي ترتفع فيه الحجب وتظهر فيه حقائق الأشياء ،ويفتضح الكاذبون الفجّار .نعم في ذلك اليوم سيكون للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين شأن عظيم ،لأنّهم لم ولن يقولوا إلاّ ما هو واقع .
الرابع: أنّ نور إيمانهم وعملهم يتحرّك بين أيديهم فيضيء طريقهم إلى الجنّة .( واعتبر بعض المفسّرين أنّ «النور » الذي يتحرّك أمامهم إنّما هو نور العمل ،وكان لنا تفسير آخر أوردناه في ذيل الآية 12 من سورة الحديد ) .
الخامس: يتجهون إلى الباري أكثر من ذي قبل ،ويرجونه تكميل نورهم والغفران الكامل لذنوبهم .
/خ8