/م155
وعلى كل حال ،فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا: ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ) .
ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسى( عليه السلام ) أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسهلبني إسرائيلجهرة ،وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة ،ووقع موسى( عليه السلام ) على الأرض مغشياً عليه ،وعندما أفاق قال: ربّاه لو شئتَ لأهلكتَنا جميعاً ،يعني بماذا أجيبُ قومي لو هلك هؤلاء ( فلمّا أخذتهم الرجفة قال ربّ لو شئت أهلكتَهم من قبل وإياي ) .
ثمّ قال: ربّاه إنّ هذا المطلب التافه إنّما هو فعل جماعة من السفهاء ،فلا تؤاخذنا بفعلهم: ( أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا ) ؟
ولقد اعتبر بعض المفسّرينوجود كلمة «الرجفة » في هذه الآية ،وكلمة «الصاعقة » في الآية ( 55 ) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرةًدليلا على التفاوت بين الميقاتين .ولكنكما قلنا سابقاًإن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة ،لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة ،وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة ،حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة ( سورة فصلت الآية 17 ) وتارة بالرجفة ( سورة الأعراف الآية 78 ) .
وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة ( بِما فعل السفهاء منا ) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل ( مثل عبادة العجل ) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة .
والجواب على هذا الكلام واضحٌ أيضاً ،لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضاً ،وإطلاق «الفعل » على «الكلام » ليس أمراً جديداً وغير متعارف ،مثلا عندما نقول: إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا ،فإنّ من المسلّم أنَّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضاً .
ثمّ إنّ موسى( عليه السلام ) قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله: ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك ،فأنت تضلّ من تشاء ( وكان مستحِقاً لذلك ) وتهدي من تشاء ( وكان لائقاً لذلك ) ( إن هي إلاّ فتنتك ) واختبارك .
وهنا أيضاً تكلّم المفسّرون في معنى «الفتنة » كثيراً وذهبوا مذاهب شتى ،ولكن بالنظر إلى أن لفظة «الفتنة » جاءت في القرآن الكريم بمعنى الاختبار الامتحان مراراً كما في الآية ( 28 ) من سورة الأنفال: ( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ) وكذا في الآية ( 2 ) من سورة العنكبوت ،والآية ( 126 ) من سورة التوبة ) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضاً .لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختباراً شديداً ،فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب ( طلب رؤية الله ) طلب تافه ومستحيل الوقوع .
وفي ختام الآية يقول موسى( عليه السلام ): رباه: ( أنت وليُّنا فاغفر لنا وارْحمنا وأنت خير الغافرين ) .
من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسى( عليه السلام ) إلى بني إسرائيل ،وقصُّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه ،وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم .