وتأتي الآية الأخيرة لتخبرنا عن حال الجبال في ذلك اليوم الحق: ( وسيّرت الجبال فكانت سارباً ) .
بملاحظة ما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصير الجبال ليوم القيامة تظهر لنا أنّ الجبال ستطويها مراحل متعاقبة ،تبدأ حركتها من: ( وتسير الجبال سيراً ){[5728]} .
ثمّ تُحمل وتُدك: ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ){[5729]} .
فتكون تلالاً من الرمال المتراكمة: ( وكانت الجبال كثيباً مهيلاً ){[5730]} .
فتصبح كأصواف منفوشة: ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ){[5731]} .
فتتحول غباراً متناثراً في الفضاء: ( وبست الجبال بسّاً فكانت هباءً منبثاً ){[5732]} .
ولا يبقى منها أخيراً إلاّ الأثر ،كما أشارت لذلك الآية المبحوثة ،وكأنّها يلوح في الأفق ،ويصبح سطح الأرض مستوياً بعد أن تُمحى الجبال من فوقها: ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً ){[5733]} .
«السراب »: من ( السرب ) ..هو الذهاب في طريق منحدر ،فعندما يسير الإنسان بين المنحدرات في الصحراء ،يتراءى له من بعيد تلألؤاً يظنه ماءً ،وما هو إلاّ انكسار في الأشعة يسمى ( السراب ) ،ثمّ أطلقت كلمة السراب على كلّ ظاهر خالً من المحتوى .
وبهذا تكون الآية قد أشارت إلى بداية حركة الجبال ونهاية أمرها ،فيما تعرضت بقية الآيات ( التي ذكرناها ) إلى المراحل المختلفة بين البداية والنهاية .
فإذا كانت عاقبة الجبال على ما لها من شموخ وصلابة ستنتهي إلى غبار متناثر في الفضاء وعلى صورة سراب ،فما حال ذلك الإنسان الذي يتصور أنّه جبار شديد البطش عريك القوى ،ولكنّه لا يستطيع أن يتحدى الجبل صلابة !...إنّه يوم القيامة ...
ولكن ..هل أن هذه الحوادث تتعلق بالنفخة الأولى للصور التي تحكي عن نهاية العالم ،أم هي متعلقة بالنفخة الثّانية والتي تقوم القيامة بها ؟!
بلا شك أنّ الآية: ( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً ) تشير إلى نفخة الصور الثّانية ،لأنها تحكي عن إحياء الأموات ومحبتهم في عرصة المحشر أفواجاً ،وكذا الحال بالنسبة للحوادث المذكورة فإنّها متعلقة بنفخة الصور الثّانية ،إلاّ أنّه من الممكن حمل بداية حركة الجبال على النفخة الأولى ،ونهاية ( السراب ) ستكون بعد النفخة الثّانية .
ويحتمل أيضاً: إنّ كلّ ما تمرّ به الجبال من مراحل تتعلق بالنفخة الأولى للصور ،وقد ذُكرتا معاً لقرب الفاصلة الزمنية ما بين النفختين ،وجرياً مع سياق بعض الآيات القرآنية التي تناولت حوادث النفختين معاً ،كما جاء ذلك في سورتي التكوير والانفطار .
ومن جميل التصوير القرآني وصفه للجبال ب «الأوتاد » والأرض ب «المهاد » ،وتأتي الآيات لتخبر عن فناء الأرض التي هي مهد الإنسان بعدما تقتلع الجبال حينما ينفخ في الصور ،ويتناسب هذا التصوير تماماً مع معارفنا ،حيث أننا لو أخرجنا أوتاد أي شيء فمعنى ذلك حكمنا على ذلك الشيء بالانهيار .