«المدبرات »: من ( التدبير ) ،وهو التفكير في عاقبة الأمور ،وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه .
وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير:
إنّ القسم بهذه الأمور الخمسة قد لفّته هالة من الإبهام والغموض وتبعث على التأمل والتعمق أكثر لمعرفة المراد من هذه الأقسام وأنّها لمن تشير ،وأي شيء تقصد ؟
وقد عرضت تفاسير مختلفة ،وقيل الكثير بخصوص هذا الموضوع ،إلاّ أنّ معظمها تدور حول ثلاثة محاور:
الأوّل: إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفّار والمجرمين ،ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق ،فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة .
ويتعلق كذلك ،بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويُسر ،وسرعة في إتمام الأمر .
والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية .
ثمّ الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية .
وأخيراً ،يتعلق القسم بالملائكة التي شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى .
الثّاني: تعلق القسم بالنجوم التي تغرب من أفق لتنتقل إلى أفق آخر وبحركة دائبة لا تعرف السكون .
فبعض منها تمشي الهوينا ،والبعض الآخر واسعة الخطوات .
وتراها سابحة في السماء .
وتتسابق فيما بينها .
وأخيراً ،تشترك في تدبير أمور الكون ،بما لها من تأثيرات ،( كنور الشمس وضياء القمر بالنسبة إلى الأرض ) .
الثّالث: تعلق القسم بالمجاهدين في سبيل اللّه ،أو بخيولهم الخارجة من أوطانهم بعزم شديد لتجول في ميادين القتال بنشاط وتمكن .
و ...تتسابق فيما بينها ...مع الجول والتسابق تعمل على إرادة وتدبير أمور الحرب .
وقد جمع بعض المفسّرين هذه الآراء ،فبعضها مقتبس من الأوّل ،والقسم الآخر من الثّاني أو الثالث ،لمعنى خاص ،ولكنّ الأصل في كلّ ذلك يعود إلى التّفاسير الثّلاثة المذكورة{[5764]} .
ولا يوجد أيّ تضاد بين كلّ ما ذُكر ،ويمكن أن تكون الآيات قد رمزت إلى كلّ هذه المعاني ...وعموماً يبدو أنّ التفسير الأوّل أقرب من غيره ،للأسباب التالية:
أوّلاً: تناسبه مع يوم القيامة ..هو ممّا تدور السورة حوله عموماً .
ثانياً: نسبة الترابط الموجودة بينه وبين الآيات المشابهة للآيات المبحوثة في أوّل سورة المرسلات .
ثالثاً: ملائمة تفسير: ( فالمدبّرات أمراً ) للملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمر اللّه ،والذين لا يتخلفون ولو لحظة واحدة في تنفيذ ما يؤمرون به ،كما تشير الآية ( 27 ) من سورة الأنبياء إلى ذلك: ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) ،وخصوصاً أنّ ( تدبير الأمر ) ورد بصيغة مطلقة من دون أيّ قيد أو شرط .
وعلاوة على كلّ ما تقدم فثمّة روايات في تفسير الآيات المبحوثة يتناسب معها التفسير الأوّل ،ومن جملتها:
ما روي عن علي( عليه السلام ) في تفسير ( النّازعات غرقاً ) ،إنّه قال: «إنّها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفّار عن أبدانهم بشدّة كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المسد ){[5765]} .
وروي عنه( عليه السلام ) في تفسير: «والناشطات » و«السابحات » و«فالمدبرات » ما يشبه ذلك{[5766]} .
ويمكن توجيه هذا التفسير بشكل أتم ،إذا ما اعتبرنا مسألة قبض أرواح المؤمنين والكفّار مصداق من مصاديق التّفسير وليس كلّ محتواه ،وعليه فالملائكة هم المقصودون بالأقسام المذكورة بصورة عامّة ،ويتمّ تنفيذ الأمر الإلهي من قبلهم على خمس مراحل: الحركة الشديدة الناتجة من عظمة صدور الأمر الإلهي ..الشروع بالتنفيذ بخطوات هادئة ..الإسراع في خطوات التنفيذ ..فالتسابق ..ومن ثمّ يكون تدبير الأمر .
وعلى أيّة حال ،فقبض الأرواح من قبل الملائكة مصداق لمفهوم كلّي ،ويعتبر الأرضية الممهدة لبقية البحوث التي تتناولها السورة حول «المعاد » .
/خ5