التّفسير
فلينظر الإنسان إلى طعامه:
تحدثث الآيات السابقة حول مسألة المعاد ،والآيات القادمة تتناول نفس الموضوع بشكل أوضح ،ويبدو أنّ الآيات المبحوثةوانسياقاً مع ما قبلها وما بعدهاتتطرق لذات لبحث تبيّن مفردات قدرة الباري جلّ شأنه على كلّ شيء كدليل على إمكان تحقق المعاد ،فما يقرّب إمكانية القيامة إلى الأذهان هو إحياء الأراضي الميتة بإنزال المطر عليها ،العملية تمثل إحياء بعد موت مختصة في عالم النبات .
ثمّ إن البيان القرآني في الآيات أعلاه قد طرح بعض مفردات الأغذية التي جعلها اللّه تحت تصرف الإنسان والحيوان ،لتثير عند الإنسان الإحساس بضرورة شكر المنعم الواهب ،وهذا الإحساس بدوره سيدفع الإنسان ليتقرب في معرفة بارئه ومصوّره .
وشرعت الآيات بقولها: ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ){[5799]} كيف خلقه اللّه تعالى ؟!
الغذاء من أقرب الأشياء الخارجية من الإنسان وأحد العوامل الرئيسية في بناء بدنه ،ولولاه لتقطّعت أنفاس الإنسان وأسدلت ستارة نصيبه من الحياة ،ولذلك جاء التأكيد القرآني على الغذاء وبالذات النباتي منه من دون بقية العوامل المسخرة لخدمة هذا المخلوق الصغير في حجمه .
ومن الجلي أنّ «النظر » المأمور به في الآية جاء بصيغة المجاز ،وأريد به التأمل والتفكير في بناء هذه المواد الغذائية ،وما تحويه من تركيبات حياتية ،وما لها من تأثيرات مهمّة وفاعلة في وجود الإنسان ،وصولاً إلى حال التأمل في أمر خالقها جلّ وعلا .
أمّا ما احتمله البعض ،من كون «النظر » في الآية هو النظر الظاهري ( أي المعنى الحقيقي للكلمة ) ،وعلى أساس طبي ،حيث أنّ النظر إلى الغذاء يثير إلى الغدد الموجودة في الفم لإفراز موادها كي تساعد عملية هضمه في المعدة ،فيبدو هذا الاحتمال بعيداً جدّاً ،لأنّ سياق الآية وبربطها بما قبلها وما بعدها من الآيات لا ينسجم مع هذا الاحتمال .
وبطبيعة الحال إنّ الذين يميلون إلى هذا الاحتمال هم علماء التغذية الذين ينظرون إلى القرآن الكريم من زاوية تخصصهم لا غير .
وقيل أيضاً: نظر الإنسان إلى غذاءه في حال جلوسه حول مائدة الطعام ،النظر إلى كيفية حصوله ...فهل كان من حلال أم من حرام ؟هل هو مشروع أم غير مشروع ؟أيْ ينظر إلى طعامه من جانبيه الأخلاقي والتشريعي .
وقد ذُكِرَ في بعض روايات أهل البيت( عليهم السلام ) ،إنّ المراد ب «الطعام » في الآية هو ( العلم ) لأنّه غذاء الروح الإنسانية .
ومن هذه الروايات ما روي عن الإمام الباقر( عليه السلام ) في تفسير الآية ،إنّه قال: «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه »{[5800]} .
وقد روي عن الإمام الصادق( عليه السلام ) ما يشابه معنى الرواية أعلاه{[5801]} .
وإذا كان المستفاد من ظاهر الآية هو الطعام الذي يدخل في عملية بناء الجسم ،فلا يمنع من تعميمه ليشمل الغذاء الروحي أيضاً ،لأنّ الإنسان في تركيبته مكوّن من جسم وروح ،فكما أنّ الجسم يحتاج إلى الغذاء المادي فكذا الروح بحاجة إلى الغذاء المعنوي .
وفي الوقت الذي ينبغي على الإنسان أنْ يكون فيه دقيقاً متابعاً لأمر غذائه وباحثاً عن منبعه: وهو المطر المحيي الأرض بعد موتها ( كما سيأتي في الآيات التالية ) ،فعليه أيضاً أنْ يهتم في أمر غذاءه الروحي وباحثاً في منشئه ،وهو غيث الوحي الإلهي النازل على قلب الحبيب المصطفى( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،والذي خزن في صدور المعصومين( عليهم السلام ) من بعده ،حيث ينبع من صفحات قلوبهم الطاهرة ليسقي الموات عسى أن تثمر ألوان الثمار الإيمانية اللذيذة من فضائل أخلاقية وعقائدية .
نعم ...ينبغي على الإنسان أنْ يكون دقيقاً في متابعة مصدر ومنبع علمه ليطمئن لغذائه الروحي ،وليأمن بالنتيجة من مدلهمات الخطوب التي تؤدي لمرض الروح أو هلاكها .
وبواسطة الدلالة الإلزامية ،يستفاد من الآية المباركة ضرورة النظر في حليّة وحرمة الغذاء ،وذلك عن طريق قياس الأولوية .
وثَمّة مَنْ يقول: إنّ المعنى كلٌّ من «الطعام » و«النظر » من الوسع بحيث يشمل كلّ ما ذكره أعلاه ،ولكنْ ..مَنْ المخاطب في الآية ؟
الجميع مخاطبون ،سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ،فعلى كلّ إنسان أنْ ينظر إلى طعامه ويتفكر فيما أودع فيه من أسرار وعجائب كماً وكيفيةً ،وعسى الضالوالحال هذهأن يجد ضالته فيترك طريق الضلال ويسلك طريق الحقّ ،ولكي يزداد المؤمنون إيماناً .
فالأغذية بما تحمل وتقدم تعتبر عالماً مضيئاً وآيات باهرة تنير درب الباحثين عن الحق في لجج الضياع والجهالة ،وتوصل الباحثين عن الأمان إلى شاطئ النجاة .