/م117
ولم تشمل الرحمة الإِلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط ،بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد: ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) .
إِلاّ أنّ اللطف الإِلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة ،بل عندما عاش هؤلاءوهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية ،الذين مر شرح حالهم في سبب النزولمقاطعةً اجتماعية شديدة ،وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية ،فتقول: ( حتى إِذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) .
بل إِنّ صدور هؤلاء امتلأت همّاً وغمّاً بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود ،فكأنّه ضاق عليهم ( وضاقت عليهم أنفسهم ) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم .
عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم .فأيقنوا ( وظنوا أن لا ملجأ من الله إِلاّ إِليه ) فأدركتهم رحمة الله مرّة أُخرى ،وسهلت ويسرت عليهم أمر التوبة الحقيقية ،والرجوع إِلى طريق الصواب ليتوبوا: ( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إِنّ الله هو التواب الرحيم ) .
بحوث
وهنا بحوث نلفت النظر إِليها:
1المراد من توبة الله على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )
قرأنا في الآية الأُولى أن الله سبحانه قد تاب على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمهاجرين والأنصار ،وقَبِل توبتهم .ولا شك أنّ النّبي معصوم من الذنوب ،ولم يرتكب معصية ليتوب فيقبل الله توبته ،وإِن كان بعض مفسّري العامّة قد اعتبروا التعبير في هذه الآية دليلا على صدور السهو والمعصية من النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أحداث تبوك .
إِلاّ أنّ التدقيق في نفس هذه الآية وسائر آيات القرآن سيرشدنا إِلى عدم صحة هذا التّفسير ،لأن:
أوّلا: إِن معنى توبة الله سبحانه رجوعه بالرحمة والرعاية على عباده ،ولا يوجد في هذا المعنى أثر للزلل أو المعصية ،كما قال في سورة النساء بعد ذكر قسم من الأحكام: ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) .ففي هذه الآية والتي قبلها لم يرد حديث عن الزلل والمعصية ،بل الكلامعن تبيين الأحكام والإِرشاد إِلى سنن الماضين القيمة المفيدة ،وهذا بنفسه يوضح أن التوبة هنا بمعنى شمول رحمة الله سبحانه لعباده .
ثانياً: لقد ورد في كتب اللغة أن أحد معاني التوبة هو ما ذكرناه ،ففي كتاب ( القاموس ) المعروف ورد في أن هذا هو أحد معاني التوبة ما لفظة: رجع عليه بفضله وقبوله:
ثالثاً: إِنّ الآية تحصر الانحراف عن طريق الحق والتخلف عنه بجماعة من المؤمنين ،مع أنّها تصرح بأنّ الرحمة الإِلهية تعم الجميع ،وهو بنفسه يبيّن أنّ توبة الله هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد ،بل هي الرحمة الإِلهية الخاصّة التي أدركت النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكل المؤمنين بدون استثناء في اللحظات الحساسة ،وثبّتت أقدامهم في أمر الجهاد .
2غزوة تبوك وساعة العسرة
«السّاعة » من الناحية اللغوية بمعنى مقطع زمني ،سواء كان قصيراً أم طويلا ،ولا يقال للزمن الطويل جداً: ساعة .«والعسرة » بمعنى المشقة والصعوبة .
إِن تاريخ الإسلام يُبيّن أنّ المسلمين لم يعانوا مثل ما عانوه في غزوة تبوك من الضغوط والمشقة ،لأنّ المسير إِلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة .
ومن جهة أُخرى فإنّ القحط قد أثّر في الناس وأنهك قواهم .
وكذلك فإنّ الفصل كان فصل اقتطاف الثمار ،ولابدّ من جمع ما على الأشجار والنخيل لتأمين قوت سنتهم .
وإِذا تجاوزنا جميع ذلك ،فإنّ المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جداً .
والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إِمبراطورية الروم الشرقية ،التي كانت يومها من أقوى الامبراطوريات العالمية .
إِضافةً إِلى ما مرّ ،فإنّ وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إِلى الحد الذي قد يضطر أحياناً عشرة أشخاص إِلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة ،وبعض المشاة لم يكونوا يمتلكون حتى النعل ،وكانوا مضطرين إِلى العبور على رمال الصحراء الحارقة بأقدام عارية ...
أمّا من ناحية الطعام والشراب ،فإنّهم كانوا يعانون من قلّة المواد الغذائية .
بحيث أنّ عدّة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحياناً ،فيمص كل منهم التمرة ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إِلى النواة ...وكان عدّة أفراد يشتركون في جرعة ماء!!
لكن ،ورغم كل هذه الأوضاع ،فإنّ المسلمين كانوا يتمتعون بمعنويات عالية وراسخة ،وبالرغم من كل المشكلات ،فإنّهم توجهوا برفقة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) نحو العدو ،وبهذه الاستقامة والرجولة فإنّهم سجلوا للمسلمين .وفي كل العصور والقرون ،درساً كبيراً خالداً في ذاكرة الزمن ...درساً كافياً لكل الأجيال ،وطريقاً للانتصار على أكبر الأعداء وأخطرهم وأكثرهم عدّة ...
ولا شك أنّ بين المسلمين من كان يمتلك معنويات أضعف ،وهم الذين دارت في رؤوسهم فكرة الرجوع والذين عبّر عنهم القرآن الكريم ب( من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) لأنّ ( يزيغ ) مأخوذة من ( زيغ ) بمعنى الميل والانحراف عن الحق نحو الباطل .
لكن ،وكما رأينا ،فإنّ المعنويات العالية للأكثرية من المسلمين ،ولطف الله سبحانه بهم ،هو الذي صرف هؤلاء عن هذه الفكرة ،ليلتحقوا بجماعة المجاهدين في طريق الحق .
3ما هو معنى ( خُلّفوا ) ؟
لقد عبرت الآيات عن هؤلاء الثلاثة المقصرين المهملين ب( خُلّفوا ) بمعنى الذين تركهم الجيش وراء ظهره ،وذلك لأن المسلمين عندما كانوا يصادفون من يتخاذل ويكسل عن الجهاد ،فإنّهم لا يعبؤون به ،بل يتركونه وراء ظهورهم ويتوجهون إِلى جبهات الجهاد .
أو لأنّ هؤلاء عندما حضروا عند النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليعتذروا ويطلبوا الصفح عن ذنبهم لم يقبل عذرهم ،وأخّر قبول توبتهم .
/خ118