قوله:{قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} بني ،مصغر للشفقة والتحبب .ورؤيا بمعنى الرؤية ،إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة .{فيكيدوا} ،منصوب بإضمار أن على جواب النهي ،وعدي الفعل{فيكيدوا} باللام ،مع أنه مما يتعدى بنفسه .والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد .وقيل: اللام للعلة .أي فيكيدوا من أجلك .و{كيدا} منصوب على أنه مصدر مؤكد .وقيل: مفعول به ؛أي فيصنعوا لك كيدا{[2200]} .
وأما الكيد ،فمعناه المكر والخبث والحيلة{[2201]} ؛فقد خشي يعقوب أن يحدث يوسف برؤياه أحدا من إخوته مما يثير في نفوسهم الحسد والكراهية فيسول لهم الشيطان أن يزلقوه في غائلة من الغوائل أو الشرور . من اجل ذلك نهاه يعقوب عليه السلام أن يقص رؤيا على إخوته كيلا يحتالوا له حيلة أو مكيدة أو خديعة تمسه فتؤذيه .وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ؛فإن كل ذي نعمة محسود ) .
قوله:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} الشيطان خبيث وماكر ومخادع ،وهو أشد ما يكون كراهية للإنسان ؛إذ يكيد له أبلغ الكيد في كل آن ،ويتحيل له طيلة الزمان أعتى الحيل والمكائد ليهوي بسببها في الهلكة والخسران سواء في الدنيا أو الآخرة ؛فهو بذلك ظاهر العداوة لان آدم ،وهو من اجل ذلك لا يألو جهدا في إثارة الحسد لدى إخوة يوسف مما يسول لهم إيقاعه في النوائب أو في مهلكة من المهالك .مع أنهم من سلالة رسل عظام ،وقد نشأوا في بيت النبوة الطاهر .ولكنهم مع ذلك كان يمكن للشيطان أن يتدسس إلى نفوسهم الضعيفة فيسول لها ذميمة الحسد ويغويها بفعل المعاصي .وذلك يدل بما لا ريب فيه على أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء كما يزعم بعض القائلين بذلك .وذهب إلى عدم كونهم من النبيين أكثر العلماء من السلف والخلف ؛فإنه لم ينقل عن الصحابة أو التابعين أنهم أنبياء .قال شيخ الإسلام بن تميمة في هذه المسألة: الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف عليه السلام ليسوا بأنبياء ،وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا عن أحد من الصحابة ( رضي الله عنهم ) خبر بأن الله تعالى نبأهم .وغنما احتج من قال بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي البقة والنساء:{والأسباط} وفسر ذلك بأولاد يعقوب .والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته ،كما يقال لهم: نبو إسرائيل .وكما يقال لسائر الناس: بنو آدم{[2202]} .
ولو كان إخوة يوسف أنبياء كأخيهم لذكرهم لله بالثناء كما ذكر أخاهم .وكذلك فإن النبيين لهم من المكاره والمحامد ما يناسب منزلة النبوة .وقد أثنى رسولنا صلى الله عليه وسلم على نبي الله يوسف فقال: ( أكرم الناس يوسف بن يعقوب بم إسحق بن إبراهيم نبي ابن نبي ) فلو كان إخوته أنبياء لشاركوه في هذا الثناء والكرم .
على أن النبوة لا يليق بها البتة كبريات المعاصي والآثام وكالذب ،وعقوق الوالدين ،وقطيعة الرحم ،وقتل النفس المؤمنة ظلما وعدوانا ،وإرقاق المسلم وبيعه إلى الكافرين في دار الكفر!فأنى لنبيين يجيئهم الوحي من السماء أن يقترفوا هذه الفظائع من المنكرات ؟!لا جرم أن ذلك يدل أيما دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء .فالنبيون معصومون عن صدور مثل هذه القبائح والمنكرات قبل النبوة وبعدها{[2203]} .