قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ 38 يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} .
جاء في سبب نزول هذه الآية أن اليهود عيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما ترى لهذا الرجل مهمة إلا النساء والنكاح .ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فأنزل الله الآية{[2358]} .
والمعنى: لقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلا إلى الأمم التي خلت من قبل هذه الأمة وقد جعلناهم بشرا مثلك يأكلون ويرقدون يتزوجون ولهم الأولاد والذرية ،فما كانوا من الملائكة الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ؛بل أرسلهم الله بشرا مثلك يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق .
ومن سنن الإسلام التحضيض على النكاح والنهي عن التبتل وهو ترك الزواج ؛فإن الزواج مدعاة للسكينة ،وصوان النفس عن الجنوح للفاحشة فضلا عما يفضي إليه الزواج من تحصيل للذرية الذين تقر بهم العين وتتحقق بمجموعهم عمارة الأرض فتصلح الحياة ويقوم المجتمع .
وفي الترغيب في الزواج يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ) .
وروي البخاري في صحيحه عن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم .فلما أخبروا كأنهم تقالوها .فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر!فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ؟وقال الآخر: إني أصوم الدهر فلا أفطر ،وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج .
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ؛لكني أصوم وأفطر ،وأصلي وأرقد ،وأتزوج النساء ؛فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .وروي مسلم أيضا سنده عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يبتل ،فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ،ولو أجاز له ذلك لاختصينا .
وهذه هي طبيعة الإسلام القائم على الاعتدال والوسط ،والمجانب لكل صور المغالاة او التفريط او التنطع .وهو ما ينسجم والفطرة البشرية خير انسجام .ومن الحق الذي لا مراء فيه أن الإسلام وحده لهو الدين المميز الأمثال الذي يراعي طبائع البشر وما جلبوا عليه من شهوات واستعدادات ورغبات أساسية مركوزة بعيدا عن المكابرة أو التطرف أو الغلو ،أو الحرمان أو الكبت .وهذه واحدة من الخصائص الكبرى التي تكفل للإسلام دون غيره أن يصلح عليه الناس ويسعد به الأفراد والمجتمعات في كل الأزمان والأحوال .
قوله:{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} ما يستطيع أحد من الناس ولا رسول من الرسل أن يأتي أمته بمعجزة أو خارقة من الخوارق كتسيير الجبال ،أو إحياء الموتى ،أو نحو ذلك من الآيات إلا بأمر الله .وذلك رد على الكافرين ؛إذ اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه من الآيات الخرقة وهو ما بيناه سابقا .وجملته .أن ذلك كله بأمر الله وحده .وما يسأل هؤلاء الجاحدون إلا من باب المكابرة والمعاندة والاستسخار .مع أنهم قد جاءهم القرآن وهو خير معجزة مشهودة تتنزل على الأرض فتعيها العقول وتتملاها القلوب .معجزة باقية خالدة لا تبلى ولا تفنى ولا تبيد ،لكن الناس عنها غافلون لاهون بعد أن اجتالتهم عن إدراكها ووعيها الشياطين!
قوله:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل أمر قضاه الله كتاب عنده يكتبه على عباده ويحكم به فيهم .وقيل: في الكلام تقديم وتأخير .والمعنى: لكل كتاب أجل ؛أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت ووقت معلوم .و نظير ذلك قوله تعالى:{لكل نبأ مستقر} والمراد: أن الأمر كله تابع لمشيئة الله واختياره وليس حسب إدارة الكافرين وما يقدمونه من اقتراحات .