قوله: ( يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به ) ،كهذا الذي جاءه الإخبار بولادة الأنثى ،( يتوارى من القوم ) ،أي: يختفي منهم ويستتر ،( من سوء ما بشر به ) ،أي: من شديد ما أصابه ،من الغم والغيظ والإحساس بالعار من ولادة الأنثى .
قوله: ( أيمسكه على هون ) ،يمسكه من الإمساك ،وهو الحبس .والهون ،معناه الهوان أو المهانة .تهاون به ،أي: استحقره{[2547]} ،والضمير في ( أيمسكه ) ،يرجع إلى البنت ؛أي: أيمسك هذه المولودة ،على رغم أنفه وإحساسه بهوان نفسه ؟!( أم يدسه في التراب ) ،والدس معناه الإخفاء والدفن{[2548]} ؛فالمولود له متردد بين إمساك الأنثى المولودة على إحساس منه بالمهانة والعار في نفسه بسبب ولادتها .أو دفنها حية في التراب .وذلك هو الوأد .وهو الفعلة المشؤومة النكراء ،الفعلة الشنيعة الفظيعة ،التي كانت العرب تفعلها في جاهليتهم الأولى .الجاهلية السخيفة العمياء ،التي تسوّل للإنسان عبادة الأحجار الصم ،ووأد ابنته حية في الثرى ،وذلك في غاية القسوة والفظاعة وكزازة القلب والطبع .
فإنه يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة ،ويجعلونها فيها حتى تموت .
وروي عن قيس بن عاصم أنه قال: يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية ،فقال عليه السلام:"أعتق عن كل واحدة منهم رقبة ".وروي أن رجلا قال: يا رسول الله ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ؛فقد كانت لي في الجاهلية ابنة ،فأمرت امرأتي أن تزينها ،فأخرجتها إلي ،فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه .فقالت: يا أبت قتلتني .فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء .فقال عليه الصلاة والسلام:"ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام .وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار ".
على أن العرب كانوا يقتلون البنات على صور مختلفة ؛فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت ،ومنهم من يرميها من شاهق جبل ،ومنهم من يغرقها ،ومنهم من يذبحها .وقد كانوا يفعلون ذلك ،تارة للغيرة والحمية ،وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة{[2549]} .لا جرم أن أسبابا ومعاذير كهذه ،لهي غاية في الباطل والنكر ،وغاية في الطغيان والجور وكزازة القلب .إن هذا الاجتراء المتفحش الأثيم على قتل البنات لكونهن إناثا ،قد ندد به الإسلام غاية التنديد ،وشدّد عليه التفظيع والنكير ؛بل إن الإسلام قد أوجب للأنثى من ظواهر التكريم والكلاءة والصون ،ما ليس له في شرائع الأرض نظير .
لقد فرض الإسلام للأنثى من بالغ العناية والرعاية والاهتمام ما أحاطها بظلال من التقدير والرحمة .وأيما إهانة للأنثى أو انتقاص لها أو حيف يصيبها من الرجل ؛فهو في دين الإسلام إثم غليظ ومخالفة عن أمر الله .ولقد حرض الإسلام على تكريم الإناث في كل مناحي الحياة ،لتكون على الدوام آمنة مبجلة مطمئنة .ومن جملة ذلك: ما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي ( ص ) قال:"من كان له ثلاث بنات ،أو ثلاث أخوات ،أو بنتان ،أو أختان ،فأحسن صحبتهن ،واتقى الله فيهن ؛فله الجنة ".وكذلك أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي ( ص ) قال:"من كانت له أنثى ،فلم يئدها ،ولم يهنها ،ولم يؤثر ولده عليها ؛أدخله الله الجنة ".وأخرج الشيخان أن النبي ( ص ) قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ،واستوصوا بالنساء خيرا ".
وعن أبي وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله ( ص ):"من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها ،وعلمها فأحسن تعليمها ،وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه ،كانت له سترا أو حجابا من النار ".
والنساء شق البشرية الآخر ،المكمل للشق الأول وهو شق الرجال .وكلا الشقين يكمل أحدهما الآخر ،ليكونا مؤتلفين منسجمين في حياتهما الدنيا .وفي هذا يقول الرسول ( ص ): فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي:"إنما النساء شقائق الرجال ".
وخير شاهد على حقيقة المساواة في التكريم بين المؤمنين والمؤمنات قوله تعالى: ( إن المسلمين والمسلمات ،والمؤمنين والمؤمنات ،والقانتين والقانتات ،والصادقين والصادقات ،والصابرين والصابرات ،والخاشعين والخاشعات ،والمتصدقين والمتصدقات ،والصائمين والصائمات ،والحافظين فروجهم والحافظات ،والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ،أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) .
قوله: ( ألا ساء ما يحكمون ) ،أي: بئس ما قالوا وما فعلوا ،وساء ما ظنوا وما صنعوا ،من فظائع الوأد ونسبة الإناث إلى الله ،وهم أنفسهم يكرهون البنات وينفرون منهم ،وينسبون الذكور لأنفسهم .وكذلك اغتمامهم واكتئابهم ،واسوداد وجوههم عند التبشير بالأنثى ،ساء ذلك كله .