{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ}: أي يختفي من أصحابه من أجل سوء ما بشر به ،لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة .
أو لئلا يشتموا به ويعيروه .ويحدث نفسه وينظر:{أَيُمْسِكُهُ} ،أي: ما بشر به ،وهو الأنثى ،{عَلَى هُونٍ} ،أي: هوان وذل .{أَمْ يَدُسُّهُ} ،في التراب ،أي: يدفن المذكور ،الذي هو الأنثى حياً في التراب ،يعني: ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد ،وهو دفن البنت حية ،كما قال تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَي ذَنبٍ قُتِلَتْ} [ التكوير: 8-9] .
وأوضح جل وعلا هذه المعاني المذكورة في هذه الآيات في مواضع أخر ،فبين أن جعلهم الإناث لله ،أو الذكور لأنفسهم قسمة غير عادلة ،وأنها من أعظم الباطل .
وبين أنه لو كان متخذا ولدا له سبحانه وتعالى عن ذلك !لاصطفى أحسن النصيبين .ووبخهم على أن جعلوا له أخس الوالدين ،وبين كذبهم في ذلك ،وشدة عظم ما نسبوه إليه .كل هذا ذكره في مواضع متعددة ؛كقوله:{ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى} [ النجم: 21-22] ،وقوله:{ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون اصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون} [ الصافات: 151-154] ،وقوله:{أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما} [ الإسراء: 40] ،وقوله:{أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} [ الزخرف: 16] ،وقوله:{لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار} [ الزمر: 4] ،وقوله:{أم له البنات ولكم البنون} [ الطور:39] ،وقال جل وعلا:{ويجعلون لله ما يكرهون} [ النحل: 26] ،وقال:{أوَ من يُنَشّؤوا في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [ الزخرف: 18] ،وقال:{وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم} [ الزخرف: 17] .
وبين شدة عظم هذا الافتراء بقوله:{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدّا تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} [ مريم:88-93] ،وقوله:{إنكم لتقولون قولا عظيما} [ الإسراء: 40] ،إلى غير ذلك من الآيات .وقوله في هذه الآية:{ولهم ما يشتهون} ،مبتدأ وخبر ،وذكر الزمخشري والفراء وغيرهما: أنه يجوز أن تكون"ما "في محل نصب عطفا على"البنات "،أي: ويجعلون لله البنات ،ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون .ورد إعرابه بالنصب الزجاج ،وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم ؛قاله القرطبي .وقال أبو حيان"في البحر المحيط "؛قال الزمخشري: ويجوز في"ما "في "ما يشتهون "الرفع على الابتداء ،والنصب على أن يكون معطوفا على"البنات "،أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور .انتهى .وهذا الذي أجازه من النصب ،تبع فيه الفراء والحوفي .وقال أبو البقاء وقد حكاه: وفيه نظر .وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو: وهي أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل ،لا يتعدى إلى ضميره المتصل المنصوب ؛فلا يجوز: زيد ضربه ،أي زيدا ،تريد ضرب نفسه ؛إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية ،أو فقد وعدم ؛فيجوز: زيد ظنه قائما ،وزيد فقده ،وزيد عدمه .والضمير المجرور بالحرف كالمنصوب المتصل ؛فلا يجوز: زيد غضب عليه ،تريد غضب على نفسه .فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب ؛إذ يكون التقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون .فالواو ضمير مرفوع ، "ولهم "مجرور باللام .فهو نظير: زيد غضب عليه اه .والبشارة تطلق في العربية على الخبر مما يسر ،وبما يسوء .ومن إطلاقها على الخبر بما يسوء ،قوله هنا:{وإذا بشر أحدهم بالأنثى} الآية ،ونظيره قوله تعالى:{فبشرهم بعذاب أليم} [ آل عمران: 21] ،ونحو ذلك من الآيات .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من بغضهم للبنات ،مشهور معروف في أشعارهم ؛ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال:
أني وإن سيق إلي المهر***ألف وعبدان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
ويروى لعبد الله بن طاهر قوله:
لكل أبي بنت يراعي شؤونها***ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها***وقبر يواريها وخيرهم القبر
وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن ،وشدة كراهيتهم لولادتهن: الخوف من العار ،وتزوج غير الأكفاء ،وأن تهان بناتهم بعد موتهم ؛كما قال الشاعر في ابنة له تسمى مودة:
مودة تهوى عمر شيخ يسره***لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده***ولا ختن يرجى أود من القبر