قوله تعالى: ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ) .
نزلت هذه الآية في ثابت بن رفاعة وفي عمه .فقد توفي رفاعة وترك ابنه صغيرا من بعده فأتى عم ثابت إلى النبي ( ص ) وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ،ومتى أدفع إليه ماله ؟فنزلت الآية{[695]} .
قوله: ( وابتلوا اليتامى ) أي امتحنوهم واختبروهم لتعلموا نجابتهم ومعرفتهم بالسعي في مصالحهم وضبط أموالهم ،ويكون ذلك عقب بلوغهم النكاح أي البلوغ أو الحلم .
قوله: ( فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) الرشد معناه: الصلاح وإصابة الصواب ،وهو خلاف الغي والضلال والمراد به هنا: الصلاح في العقل والدين وحفظ المال{[696]} أي إن أبصرتم وأحسستم منهم صلاحا في العقل والدين وحفظ المال ولم تخشوا منهم تفريطا في المال وتبديدا فأعطوهم أموالهم التي كانت لهم بحوزتكم وتحت رعايتكم .
ويؤخذ من هذه الآية أن دفع المال لليتيم إنما يكون بشرطين هما: إيناس الرشد ثم البلوغ .فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال إليه .وذلك الذي عليه جمهور الفقهاء .لكن أبا حنيفة قد أسقط إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة .فإنه لو بلغ اليتيم خمسا وعشرين سنة وجب دفع المال إليه ولو لم يكن راشدا .وقد علّل أبو حنيفة ذلك بأنه ( الموصى عليه ) في مثل هذه السن يصبح جدا ولا يعقل أن يحجر على الجد .والراجح عندي ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من بقاء الحجر عليه مادام غير راشد بالغا من السن ما بلغ .وذلك ما يقتضيه ظاهر الآية ( رشدا ) فلا معنى لدفع المال إليه ما دام مفرطا في المال ،وغير صالح في التصرف ؟
واختلف الفقهاء في لزوم الرفع إلى السلطان عند دفع المال إلى اليتيم أم أن ذلك موكول إلى اجتهاد الوصيّ فسه من غير حاجة إلى إبلاغ السلطان .فقد ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الرفع إلى السلطان ليثبت عنده رشد اليتيم ثم يدفع إليه ماله .وقال آخرون: إنه يكفي في ذلك اجتهاد الوصي ومعرفته بحال اليتيم إن كان قد بلغ الرشد أو لم يبلغ .
ولو أن الوصيّ سلّم اليتيم ماله بعد الرشد ثم عاد إليه السفه لتبذير أو سوء تدبير أو غيره فعل يعود إليه الحجر في ماله ؟قال مالك والشافعي في أحد قوليه بعودة الحجر .وقال أبو حنيفة: لا يعود إليه الحجر لمجرد بلوغه عاقلا وذلك بدليل صحة إقراراه في الحدود والقصاص .واستبدال مالك والشافعي على عودة الحجر بقوله تعالى: ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) وهذا هو الراجح والله أعلم{[697]} .
وقد ورد في بيان كلمة ( بالمعروف ) أقوال عديدة نقتصر منها على اثنين .فقال قوم: المقصود بالمعروف هو القرض يأخذه الوصي من مال اليتيم إذا احتاج إليه حتى إذا أيسر قضه إياه .وهو قول كثير من أهل العلم منهم عمر بن الخطب وعبد الله بن عباس والأوزاعي وغيرهم .أما القول الثاني: فلا قضاء على الوصيّ الفقير فيما يأكل بالمعروف ؛لأن ذلك في مقابل حرصه وانشغاله بالعناية والاهتمام بمال المحجور .وهي طعمة من الله له .وقدر المعروف هنا أن يأكل ما يسد جوعته ويكتسي بما يستر عورته ولا يلبس الرفيع الفاخر من الحلل وغير ذلك .وذلك هو قول جمهور الفقهاء .وهو الراجح ،والدليل على صحة ذلك إجماع الأمة على أن الإمام الناظر لشؤون المسلمين لا يجب عليه دين عوضا عما أكل بالمعروف من أموال المسلمين .
قوله: ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ) إذا دفع الوصيّ مال اليتيم إليه بعد البلوغ والرشد فعليه الإشهاد على ذلك وهو من قبيل التثبت وإزالة الشبهة والتهمة .وهذا الإشهاد مستحب عند فريق من أهل العلم .وقال آخرون: بل انه فرض لظاهر الآية والله أعلم .
والتعقيب المناسب في الآية أن يخوف الله عباده الأوصياء فلا يميلوا أو يقصروا ،فإنه سبحانه يجازيهم على أفعالهم أو ما تكنه صدورهم وكفى به محاسبا ومجازيا{[698]} .