{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ( 1 )فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ( 2 )وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ( 6 )}
( 1 )حتى إذا بلغوا النكاح: الجملة بمعنى حتى إذا بلغوا سن الاحتلام والقدرة على المعاشرة الجنسية .
( 2 ) وبدارا أن يكبروا: استعجالا لأكلها قبل أن يكبروا وتبقى لهم أموالهم .
الخطاب في هذه الآية أيضا موجه للمسلمين كسابقتها .وقد تضمنت:
( 1 ) أمرا باختبار اليتامى حينما يبلغون سن الحلم ودفع أموالهم إليهم إذا ثبت لهم رشدهم وتمييزهم .
( 2 ) نهيا عن أكل أموالهم بحجة تدبير أمور أصحابها أكلا فيه إسراف وفيه استعجال قبل أن يكبروا
( 3 ) وتحديدا للموقف الذي يجب أن يقفوه من مال الأيتام الذي في عهدتهم .وهو أن يعف الغني ولا يمد يده إليه .أما الفقير فله أن يأخذ أجرا بالمعروف أي بدون مبالغة فيما يأخذ .
( 4 )أمرا بالإشهاد حينما يدفع الوصي لليتيم أمواله .
تعليق على الآية
( وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ ...) إلخ .
روى الشيخان عن عائشة قالت: إن الآية ( وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) نزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أن يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف{[504]} وليس في الحديث إشارة إلى مناسبة معينة وإنما فيه توضيح لمدى الآية .وهو ظاهر من نصها .وهناك رواية{[505]} تذكر أنها نزلت في مناسبة استفتاء شخص من النبي صلى الله عليه وسلم عما يحق له من مال ابن أخيه اليتيم الذي تحت يده ومتى يدفعه إليه .والرواية وإن كانت لم ترد في الصحاح فإنها محتملة الصحة .ولكن المتبادر من روح الآية ونصها أنها بسبيل تشريع أساسي وعام في صدد أموال اليتامى في حال صغرهم وفي حال بلوغهم سن الحلم والرشد .وهي من هذه الناحية متصلة نوعا ما بالآيات السابقة سياقا وموضوعا ،وقد يكون استفتاء العم قد جاء وسيلة إلى ذلك .
ولقد احتوت الآية وسيلتين متلازمتين للاستيثاق من قابلية اليتيم:
أولاهما: بلوغه سن النكاح أي سن الاحتلام والقدرة الجنسية .
وثانيتهما: ثبوت رشده في التصرف .أي أنه لا يكفي لدفع مال اليتيم إليه أن يبلغ سن الحلم بل ينبغي أن يثبت رشده أيضا .وهذا يستتبع القول فيما يتبادر لنا إنه إذا لم يثبت رشده بعد بلوغه سن الحلم يدخل في حكم الآية السابقة فيعتبر سفيها ويظل محجورا عليه ،ويدبر ماله من قبول الولي أو الوصي وينفق عليه منه إلى أن يثبت رشده .
والمتبادر من روح الآية والرواية ثم من روح الآيات المكية والمدنية عامة التي نزلت في التشديد على حق اليتيم وحفظ ماله أن أولياء اليتامى كانوا من عصبتهم وأقاربهم الأدنين كالأخوة الكبار والأعمام ،وأن أموال اليتامى التي كانت على الأعم الأغلب من المواشي والزروع والثمار كانت مختلطة بأموالهم ؛ولذلك كانوا محل تهمة أكل أموالهم وتبديل الطيب منها بالخبيث .
ومن هنا تبدو حكمة التشديد القرآني المتوالي ؛لأن هذا المجال ليس بمجال الغريب ؛ولأن الغريب لا يجرؤ على ما يجرؤ عليه عصبة اليتيم وأقاربه الأدنون .
وحديث الشيخين عن عائشة الذي أوردناه قبل يفيد هذا أن ولي اليتيم كان يرى لنفسه حقا في أخذ شيء من مال اليتيم القاصر مقابل النظر عليه وتدبيره ،فأباحت الآية هذا للفقير مع شرط الأكل بالمعروف أي عدم تجاوز الحد المتعارف على أنه حق معقول ،وسائغ .وأمرت الغني بالتعفف لأنه ليس في حاجة .فكان ذلك متسقا مع ما تكرر من مظاهر عناية حكمة التنزيل ورعايتها لليتيم .وفيه في الوقت نفسه دليل على أن أولياء اليتامى كانوا في العادة من ذوي عصبة اليتامى وأقربائهم الأدنين .
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث النبوية في صدد ما يجوز للولي غير الغني أكله من مال اليتيم من ذلك حديث رواه الإمام أحمد جاء فيه ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لي مال ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ولا أن تقي مالك أو قالتفدي مالك بماله ){[506]} مما فيه توضيح تطبيقي للآية واتساق مع هدفها .
ولقد روى المفسرون أقوالا عن بعض الصحابة والتابعين في صدد ما إذا كان ما يأخذه الفقير من مال اليتيم قرضا يجب رده إذا أيسر أم لا .فمنهم من قال: إنه قرض ومنهم من قال: إنه مقابل الجهد والنظر .والقول الثاني هو الأوجه على ما هو المتبادر والأكثر اتساقا مع روح الآية والأحاديث ،وبخاصة مع صراحة الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها .
والخطاب في الآية وإن كان موجها للأولياء ،فإن الذي يتبادر لنا إن هذا لا يعني أنه ليس لولي الأمر والحكام حق الإشراف على تطبيق أحكامها سواء أفي اختيار اليتامى والتثبت من بلوغهم الرشد بعد الحلم أم في مراقبة الأولياء ومنع إساءة تصرفهم في أموال اليتامى التي تحت أيديهم بأي وجه .فإن هذا مما يحقق الهدف القرآني .
ولقد تعددت الأقوال في سن الرشد ودلائله وكيفية التثبت منه .ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك .وقد عزا بعض المفسرين إلى ابن عباس وسعيد ابن جبير وغيرهم أن دلائل ذلك صلاح الدين وحفظ المال ،وقال بعضهم: إن من ذلك اجتناب الفواحش والتبذير ،ومع ما في هذه الأقوال من وجاهة ،فإن عدم تفصيل ذلك في القرآن والسنة الصحيحة قد يعني أنه ترك للمسلمين والحكام حسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص .ولقد قال بعضهم إن سن الرشد هي السابعة عشرة أو الثامنة عشرة .وروح الآية يفيد أن القصد من جملة ( فإن آنستم منهم رشدا ) هو ثبوت رشدهم بعد بلوغهم الحلم .وهذا منوط بالتمييز والإدراك والأخلاق ،وليس بالسن .فإذا بلغ اليتيم الحلم ولم يثبت رشده بذلك يظل محجورا عليه كما قلنا قبل .وهذا المتفق عليه عند الجمهور .
وهناك نقطة يحسن الإشارة إليها ،وهي تأخر ظهور القدرة الجنسية في اليتيم .وهو ما عبرت عنه الآية في جملة ( حتى إذا بلغوا النكاح ) لم نطلع على حديث نبوي وراشدي في ذلك .ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه تعرض لهذه النقطة ،والاحتلام في البلاد الحارة قد يكون قبل الخامسة عشرة ،وقد يتأخر في غيرها إلى بعدها .وقد يتأخر لسبب جسماني أو صحي أيضا .ولقد روى ابن كثير حديثا وصفه بالصحيح جاء فيه ( رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يحتلم أو يستكمل الخمس عشرة ...) وروى الخمسة عن ابن عمر حديثا جاء فيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد ،وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه ){[507]} .والآية قد هدفت إلى إيجاب التثبت من بلوغ اليتيم سن الرجولة والرشد معا .وقد يمكن الاستئناس بالحديثين على أن سن الرجولة يمكن أن يكون في الخامسة عشرة ،ولو لم يكن احتلام بحيث يسوغ القول على ضوء ذلك إن اليتيم إذا بلغ الخامسة ولم يكن قد احتلم وثبت رشده يكون قد تحققت صلاحيته للتصرف بماله وساغ دفعه إليه .والله تعالى أعلم .