{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا ان يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا6 للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا7 وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا8 وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا9 إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا10}
قلنا إن الآيات الكريمات من أول السورة في بيان العلاقات الإنسانية ، وقد نظم سبحانه وتعالى العلاقات بين بني الإنسان ، وعنى ببيان حقوق الضعفاء ، وهم اليتامى والنساء ، فقد كانت المرأة في الماضي مظنة ان تؤكل حقوقها وتهضم ، واليتيم مقهور إلا إذا من الله تعالى بكالئ من البشر يحوطه بعنايته ، وفي هذه الآيات التالية يبين سبحانه معاملة اليتيم حتى يبلغ ، وحقه في الميراث ، وكيف تجب حياطته والعناية به وبماله ، ولا يدفع إليه ماله إلا إذا رشد .
{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منه رشدا} الابتلاء معناه اختبار حال اليتيم من حيث قدرته على التصرف في ماله ، ويمرن على ذلك قبيل البلوغ ، حتى لا يجئ وقت إلا وقد صار في قدرة على إدارتها ، وقد قال القرطبي في بيان اختباره:"لا بأس ان يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه ، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار ، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه( أي بعد بلوغه ) وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك المال عنده". . . وقال جماعة من الفقهاء:الصغير لا يخلو ان يكون غلاما او جارية ، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا ، وأعطاه شيئا نزرا ليتصرف فيه ، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه ، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه ، فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله عند البلوغ وأشهد عليه ، وإن كان جارية رد عليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته ، واستيفاء الغزل وجودته ، فإن رآها رشيدة سلم إليها مالها وأشهد عليها وإلا بقيا تحت الحجر
وإن نهاية اليتيم ببلوغ النكاح ، أي بوجود المظاهر التي تدل على الرجولة في الغلام ، والتي تدل على مبلغ بلوغ النساء في الفتاة ، وإن أقصى مدة البلوغ ذلك المبلغ اختلف الفقهاء فيها ، فالجمهور على ان البلوغ بالسن وهو أقصى غاية:لظهور أمارات النكاح ببلوغ خمس عشرة ، وأبو حنيفة على انه سبع عشرة بالنسبة للفتاة وثماني عشرة سنة بالنسبة للصبي . . . وقوله تعالى:{ بلغوا النكاح} كناية واضحة عن ظهور أمارات الرجولة الكاملة ، وأمارات الأنوثة ؛ لأن الاستعداد للزواج هو كذلك ، و"حتى"هنا للغاية ، وهي داخلة على الجملة ، فهي تبين نهاية الصغر ، والجملة التي دخلت عليها ظرفية في معنى الشرط .
ولا يدفع المال بمجرد البلوغ ، بل لا بد من الرشد ، ولذلك قال تعالى:
{ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا ان يكبروا} آنس معناها أبصر ، ولذلك قال تعالى:{. . . آنس من جانب الطور نارا . . .29}[ القصص] وقيل آنس معناها أحس ، وعندي ان معنى الإحساس ثابت في آنس ، فهو ليس رؤية فقط ، بل هو رؤية ، اتصل بها إحساسه ووجدانه ، ومعنى الرشد الصلاح في العقل والخلق والمال ، ونكر الرشد ، فقال{ رشدا} للإشارة إلى انه لا يطلب من الصغير ان يؤتى الرشد الكامل بمجرد البلوغ بل إنه يكتفي بنوع من استئناس الرشد وتوقع الخير منه ، ولا يطلب منه الكمال وإلا ما اعطى صغير يبلغ ماله قط ؛ لن الرشد الكامل لا يكون إلا بالممارسة المستمرة .
ومعنى هذا الكلام انه لا بد من فترة بعد البلوغ يستأنس فيها الرشد ، بعد الاختبار في الصغر ، إلا إذا كان الاختبار في الصغر أثبت رشدا ، وإذا بلغ غير رشيد ولم يؤنس منه رشد استمر تحت الولاية عند جمهور الفقهاء مهما تبلغ سنه ، وذلك لقوله تعالى:{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما . . .5}[ النساء] وقال أبو حنيفة:لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ الخامسة والعشرين ، فإذا بلغها عاقلا ، ولو غير رشيد فليس لأحد عليه سبيل ، وعلى هذا الرأي إبراهيم النخعي .
وقد نهى الله الأوصياء عن ان يأكلوا مال اليتامى ، فقال:{ ولا تأكلوها إسرافا وبدارا ان يكبروا} أي لا تأكلوا في مدة وصايتكم أموال اليتامى مسرفين في الكل ، او مبادرين بالأخذ خشية ان يكبروا ، فالإسراف والبدار مصدران وقعا في موقع الحال ، وهما في معنى الوصف ، وليس المراد ان لهم ان يأكلوا غير مسرفين ولا مبادرين ، بل إن ذلك بيان لأشنع الأحوال التي يقع فيها الأوصياء ، وهي ان يأكلوا أموال اليتامى بإسراف مبادرين إلى الكل خشية ان يكبروا فتؤخذ منهم تلك الموال وتئول إلى أصحابها .
وقد بين سبحانه جواز الكل من مال اليتيم عند الضرورة فقال:
{ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} قسمت الآية الأوصياء إلى قسمين:غنى يقوم برعاية اليتيم من غير اجر حسبة لله تعالى ، وقال عنه:{ فليستعفف} ومعناها ليعف نفسه ، وقال الزمخشري:إن الاستعفاف أبلغ من العفاف ؛ لأنه تحرى العفاف وبلوغ أقصى غاياته ، ومعنى ذلك انه لا يأخذ شيئا ؛ لأن طلب أي شيء من غير حاجة طمع في مال اليتيم ، يتنافى مع العفاف الذي ينبغي ان يتحلى به الأوصياء .
والقسم الثاني:فقير أذنه الله تعالى بأن يأكل من مال الصغير بالمعروف أي بالقدر الذي لا يستنكر ، فلا يسرف في الأخذ ، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم ، فقال له:"كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متاثل"{[672]} أي جامع مدخر تتجاوز الحاجة ، وقد روى ان عمر بن الخطاب شبه الوالي على المسلمين بالوصي على اليتيم ، قال( ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت ) .
ونرى من هذا ان الآية تشير إلى انه لا تفرض أجرة للغني قط ، أما الفقير فيأكل بالمعروف ، ولا يكون ذلك أجرة لأنه ممنوع من التأثل والادخار ؛ وذلك لأن اليتيم رعايته فرض كفاية على المسلمين ليخرج أليفا مألوفا ، ولا يخرج منابذا الجماعة ، شرا عليها .
وجمهور الفقهاء قد قرروا جواز فرض أجرة حتى للغني خشية ان يحجم الناس عن ولاية امر اليتيم ، والله سبحانه يتولاه برعايته ، ويحفظه بكلاءته .
{ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيب} هذا بيان ما يجب القيام به عند انتهاء الوصاية عليه ، وهو ان يدفع إليه ماله كاملا ، وللاحتياط من الخصومات والمنازعات يشهد على دفعه المال ، والشهادة في هذه الحال حجة لازمة ملزمة للمحجور عليه الذي انتهت الوصاية عليه ، فهذا إرشاد عظيم من الله سبحانه وتعالى لمنع المشاحة ولإبراء الوصي ، ولكي يكون ليتيم على بينة من أمره ، والكلام يتضمن تقديم حساب عن التصرفات التي تصرفها في مال القاصر ، وقد كان علي بن أبي طالب –رضي الله عنه – وصيا على يتامى ، فلما اعطى إليهم أموالهم حاسبهم وحاسبوه ، وكان في ضمن الحساب زكوات أموالهم ؛ إذ كان يدفعها من هذه الأموال .
وإنه في هذا الحساب يكتفي أبو حنيفة بيمينه إذا كان هناك خلاف في شأنها ؛ لأنه أمين لم تعرف خيانته ، إذ لو عرفت لعزل ، والأمين يصدق باليمين إذا خولف ، والمالكية والشافعية والحنابلة لا يقبل الحساب عندهم إلا بالإقرار من القاصر ، أو البينة الكاملة ، وهي رجلان او رجل وامرأتان ، وإن حساب الناس قد يغادر الكثير ، والأمر في ذلك إلى الضمير الديني ، والقلب المخلص ، ولذلك كان وراء حساب الناس حساب الله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ولذا قال سبحانه:{ وكفى بالله حسيب} والحسيب هو المحاسب المراقب المشاهد الدقيق الحساب الذي لا يترك شيئا ، وكفى ان يكون هذا الحساب ، وكان المعنى:حاسبوا أنفسكم فقدموا الحساب عن مال اليتيم صادقا ؛ فإنكم إن أفلتم من حساب الدنيا فلن تفلتوا أبدا من حساب الله المحيط الدقيق ، وإن استطعتم الإخفاء والكتمان والتحايل على الناس ، فلن تستطيعوا ذلك عند الله تعالى .