وقوله تعالى:( وابتلوا اليتامى ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، ومقاتل بن حيان:أي اختبروهم ( حتى إذا بلغوا النكاح ) قال مجاهد:يعني:الحلم . قال الجمهور من العلماء:البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد . وقد روى أبو داود في سننه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال:حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل ".
وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة ، رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رفع القلم عن ثلاثة:عن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق "أو يستكمل خمس عشرة سنة ، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال:عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير .
واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج ، وهو الشعرة ، هل تدل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين ، فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة ، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم ; لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه ، فلا يعالجها . والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس ، واحتمال المعالجة بعيد ، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عطية القرظي ، رضي الله عنه قال:عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلي سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت ، فخلى سبيلي .
وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه وقال الترمذي:حسن صحيح . وإنما كان كذلك; لأن سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية .
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الغريب ":حدثنا ابن علية ، عن إسماعيل بن أمية ، عن محمد بن يحيى بن حيان ، عن عمر:أن غلاما ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر ، رضي الله عنه:انظروا إليه . فلم يوجد أنبت ، فدرأ عنه الحد . قال أبو عبيد:ابتهرها:أي قذفها ، والابتهار أن يقول:فعلت بها وهو كاذب فإن كان صادقا فهو الابتيار ، قال الكميت في شعره .
قبيح بمثلي نعت الفتاة إما ابتهارا وإما ابتيارا
وقوله:( فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) قال سعيد بن جبير:يعني:صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم . وكذا روي عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وغير واحد من الأئمة . وهكذا قال الفقهاء متى بلغ الغلام مصلحا لدينه وماله ، انفك الحجر عنه ، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه .
وقوله:( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرة قبل بلوغهم .
ثم قال تعالى:( ومن كان غنيا فليستعفف ) [ أي] من كان في غنية عن مال اليتيم فليستعفف عنه ، ولا يأكل منه شيئا . قال الشعبي:هو عليه كالميتة والدم .
( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة:( ومن كان غنيا فليستعفف ) نزلت في مال اليتيم .
وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن . . ، قالت:نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا علي بن مسهر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت:أنزلت هذه الآية في والي اليتيم ( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) بقدر قيامه عليه .
ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير ، عن هشام ، به .
قال الفقهاء:له أن يأكل أقل الأمرين:أجرة مثله أو قدر حاجته . واختلفوا:هل يرد إذا أيسر ، على قولين:أحدهما:لا; لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا . وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي; لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل . وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا حسين ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده:أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:ليس لي مال ، ولي يتيم ؟ فقال:"كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال:تفدي مالك - بماله "شك حسين .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، حدثنا حسين المكتب ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله ؟ قال:"بالمعروف غير مسرف ".
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث حسين المعلم به .
وروى أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عامر الخزاز ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر:أن رجلا قال:يا رسول الله ، فيم أضرب يتيمي ؟ قال:ما كنت ضاربا منه ولدك ، غير واق مالك بماله ، ولا متأثل منه مالا .
وقال ابن جرير:حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال:جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال:إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح في إبلي وأفقر ، فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال:إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسقي عليها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب .
ورواه مالك في موطئه ، عن يحيى بن سعيد به .
وبهذا القول - وهو عدم أداء البدل - يقول عطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعي ، وعطية العوفي ، والحسن البصري .
والثاني:نعم; لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة . وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا:حدثنا ابن خيثمة ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب قال:قال عمر [ بن الخطاب] رضي الله عنه:إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرت قضيت .
طريق أخرى:قال سعيد بن منصور:حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال:قال لي عمر ، رضي الله عنه:إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ، إن احتجت أخذت منه ، فإذا أيسرت رددته ، وإن استغنيت استعففت .
إسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك . وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله:( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) يعني:القرض . قال:وروي عن عبيدة ، وأبي العالية ، وأبي وائل ، وسعيد بن جبير - في إحدى الروايات - ومجاهد ، والضحاك ، والسدي نحو ذلك . وروي من طريق السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله:( فليأكل بالمعروف ) قال:يأكل بثلاث أصابع .
ثم قال:حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا ابن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس:( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) قال:يأكل من ماله ، يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم . قال:وروي عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك .
وقال عامر الشعبي:لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه ، كما يضطر إلى [ أكل] الميتة ، فإن أكل منه قضاه . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن وهب:حدثني نافع بن أبي نعيم القارئ قال:سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله:( فليأكل بالمعروف ) فقالا ذلك في اليتيم ، إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره ، ولم يكن للولي منه شيء .
وهذا بعيد من السياق; لأنه قال:( ومن كان غنيا فليستعفف ) يعني:من الأولياء ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) أي:منهم ( فليأكل بالمعروف ) أي:بالتي هي أحسن ، كما قال في الآية الأخرى:( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) [ الإسراء:34] أي:لا تقربوه إلا مصلحين له ، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف .
وقوله:( فإذا دفعتم إليهم أموالهم ) يعني:بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [ منهم] فحينئذ سلموهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ( فأشهدوا عليهم ) وهذا أمر الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم; لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه .
ثم قال:( وكفى بالله حسيبا ) أي:وكفى بالله محاسبا وشهيدا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام ، وحال تسليمهم للأموال:هل هي كاملة موفرة ، أو منقوصة مبخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله . ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تلين مال يتيم ".