قوله:{الذين يصدون عن سبيل الله} الذين في محل جر نعت للظالمين .أو في محل رفع خبر لمبتدأ تقديره الضمير ،هم .أو في محل نصب لفعل محذوف تقديره أعني ،ويصدون من الصد وهو الصرف أو المنع ؛أي يمنعون عن سبيل الله وهو دينه{[1406]} .
هذا من جملة النداء الذي ينادي بين أهل الجنة وأهل النار .والمنادي في ندائه مخول من ربه أن يلعن الظالمين الذين كانوا في الدنيا يصدون الناس عن دين الله ؛فهم أنفسهم معرضون عن دين الله ومنهجه القويم للناس ،ثم يتعدون هذا الإعراض إلى صد البشرية بصرفها عن التوجه نحو الحق .لا جرم أن دين الإسلام بعقيدته ومثله وقيمه وتعاليمه وتشريعه لهو عين الحق والصدق والكمال .وهو ما تصلح عليه البشرية تمام الصلاح ،وتستقيم على أساسه كامل الاستقامة في كل أحوالها النفسية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية .وهذه حقيقة واضحة وملموسة بفعل التجربة الواقعية التي عاينها المسلمون إبان الحكم بهذا الدين ،وإبان سلطان الإسلام الوارف المهين على الأرض لكن الظالمين الذي تتفطر قلوبهم ضغنا وحسدا لفرط كراهيتهم للإسلام والمسلمين ما برحوا يصدون عن الإسلام منذ أن بزغ فجره إلى هذه الدنيا ما برح المشركون والمتربصون على اختلاف مللهم وأديانهم وعقائدهم يحادون الله ورسوله ،ويشاقون الإسلام أفظع مشاقة ،ويتآمرون على المسلمين أبشع تآمر .ولئن كان التآمر والكيد للإسلام والمسلمين في الأزمنة الماضية بالوسائل البدائية الهمجية كالقتل والإبادة والاستئصال ،كالذي حل بالمسلمين في بغداد على أيدي المغول التتار ،أو الذي حل بالمسلمين في الأندلس على أيدي الصليبيين الحاقدين ..لئن كان التآمر والكيد في الأزمنة الفائتة على هذه الصورة والكيفية من الاستصال وإزهاق الأرواح وتعذيب الأجساد ،فإن الظالمين في الزمان الراهن أشد براعة ونكرا وأخبث وسيلة وأسلوبا في صد البشرية عن الإسلام وصرف المسلمين بالذات عن هذا الدين العظيم .وذلك بما برعوا من أساليب التشويه والتشكيك وافتراء الإشاعات الكاذبة والأخبار الملفقة المكذوبة عن منهج الإسلام ؛وذلك لتشويه الأفكار وتسميم العقول لدى المسلمين حتى ينثنوا عن دنيهم .
ولقد انبرى لمثل هذه العملية الهائلة الظالمة متخصصون في مختلف المجالات التشريعية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وسائر ما يسمى في الاصطلاح الراهن بالعلوم الإنسانية .وقد زود هؤلاء بكل ما يحتاجون إليه من أسباب الدعاية والنشر كالطباعة ووسائل الإعلام وكتابة الصحائف والنشرات والمؤلفات المخلفة بالافتراءات والأكاذيب على الإسلام ،والطعن في أغلب معانيه وتعاليمه بما يصد الناس عن هذا الدين صدا ،وبما يثير في أذهان المسلمين تشويها كبيرا عن دينهم فينثنون عنه انثناء الجامحين الشاردين الذين استحوذت عليهم الشياطين من خصوم الإسلام فأغووهم وأضلوهم ضلالا مهينا .
ويضاف إلى هذه الأساليب النفسية والفكرية الخبيثة ما أنزله أعداء الإسلام بساحة المسلمين من العذاب والويلات الجسدية والإبادة الجماعية كحملات التقتيل والتنكيل والتشريد .ومن جملة ذلك ما حل بالمسلمين في كشمير نتيجة للتواطؤ القذر بين البريطانيين الاستعماريين ،والوثنيين الهندوس عبدة البقر .ثم ما حل بالمسلمين في بلاد وطئتها أقدام الشيوعيين الملحدين ،فعاثوا فيها خرابا وإذلالا مثل كمبوديا وسمرقند .وكذلك ما حل بالمسلمين في فلسطين حيث التدمير والتشريد والاستئصال نتيجة للتواطؤ الخسيس بين الاستعماريين البريطانيين والصهيونيين من اليهود وأعوانهم ،لقد توطأ هؤلاء جميعا في أوكار العار والتأمر والخيانة على المسلمين في فلسطين ؛إذ أخرجوهم منها إخراجا بعد أن فعلوا فيهم صنوف الأفاعيل الشيطانية كالتخويف والترهيب والتقتيل والتهجير بالقوة .وأخيرا مأساة المسلمين في بلاد البوسنة والهرسك ،وما تحمله لنا الأخبار الفظيعة والمذهلة عن أهوال رعيبة ارتكبها المجرمون الطغاة من الصرب والروس في حق المسلمين ،إن ما يقترفه هؤلاء الأشرار والأنجاس من صور الطغيان والظلم والاغتصاب وانتهاك الحرمات في بلاد المسلمين ما ينبغي أن تطأطئ له رؤوس العالمين وجباههم خجلا واستحياء .إن هؤلاء المجرمين الطغاة إنما يقارفون أفاعيلهم المنكرة الشنيعة بما تحملونه في نفوسهم وأذهانهم وقناعاتهم من الحوافز على قتل المسلمين وتعذيبهم وإبادتهم .حوافز خبيثة رعناء تجتمع فيها الصليبية الضالة الحمقاء مع الماركسية الماكرة الحاقدة .
قوله:{ويبغونها عوجا} الضمير في: يبغونها ،يعود على سبيل الله وهو دينه الاسلام .والعوج ،معناه الميل ،وهو خلاف الاعتدال{[1407]} هؤلاء الظالمون الذين يصرفون الناس عن الحق ويمنعون المسلمين من التزام دنيهم وما فيه من منهج للحياة يريدون أن يكون الإسلام تبعا لما يبتغونه له من الميل والاعوجاج عن طريقه المستقيم .يريدون للإسلام أن يكون موافقا لأهوائهم ورغبتهم في تمييعه وحرفه عن طبيعته الحقيقية المتماسكة .طبيعته المنزلة من عند الله والتي أراد الله لها أن تكون وافية كاملة شاملة لا تقبل التجزئة أو التفريق .وذلك هو دأب المتربصين بالإسلام من خصومه الاستعماريين والصليبيين والملحدين والصهيونيين ؛فهم جميعا يبذلون كل طاقاتهم وجهودهم من أجل التلبيس على المسلمين ليروا دينهم الإسلام على غير حقيقته من التوحيد والاستقامة والعدل والاستعلاء والجد .يريدون أن يلبسوا على المسلمين دينهم ليأخذوا به مشوها مائلا عن حقيقته السليمة المستقيمة ؛ليأخذوه دينا مضطربا محرفا .أو ليأخذوه أشتاتا من الدين المشوه المختلط .أو يجعلوه نمطا من التدين المضلل كالصوفية الهائمة الشاطحة البلهاء التي تركن إلى السلبية بالتوقع واعتزال الجهاد ومواجهة الظالمين ،أو يجعلوه دينا مفككا مضطربا يأخذ المسلمون ببعضه في الأحوال الشخصية والأخلاق الحميدة والعبادات المجردة ،ويعرضون عن بعضه الآخر من مقتضيات الإسلام الأساسية كالجهاد ،والأمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،وحمل لواء الإسلام للعالمين في غاية الهمة والشجاعة ،والاستعلاء على الظالمين المتربصين من أعداء الإسلام ؛وذلك هو الإسلام الحقيقي الكامل الذي فرضه الله للعالمين كافة ،وإن كرهه الظالمون وكادوا له كيدا بليغا .
قوله:{وهم بالآخرة كافرون} هؤلاء المشركون الظالمون الذين يصدون عن دين الله ويبغون الإسلام أن ينقلب ضعيفا مفككا مضطربا ،لا جرم أنهم كافرون بيوم القيامة وما تنطوي عليه من أهوال وقواصم تنتظر العتاة المجرمين من دعاة الفساد والإلحاد والتخريب في الأرض ،إنهم لا يعبأون بالحق أو الفضائل ،ولا تصيخ قلوبهم وآذانهم لنداء المنطق والحكمة ،وإنما دأبهم الانزلاق سراعا خلف الشيطان بوسوسته وإغوائه وإطغائه تحصيلا لشهواتهم وأهوائهم الهابطة الرخيصة .