[ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ] هذا هو التحديد الواقعي لهذا الصراط في النماذج التي تتحرّك فيه وتلتزمه ،في ما يتمثّل فيه من النعمة الإلهية التي يفيضها اللّه على عباده ،وأيّ نعمة أعظم من نعمة الهداية إلى الحقّ الذي يؤدي بهم إلى رضوان اللّه ،وإلى نعيمه في جنته الخالدة !وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في آية أخرى ،عند الحديث عن الذين أنعم اللّه عليهم في النماذج الحيّة المتحركة في خطّ توحيد اللّه وطاعته ،وذلك قوله تعالى: [ وَمَن يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مِّنَ النبيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً] [ النساء:69] وهذا يعني أنَّ الصراط المستقيم هو صراط هؤلاء الذين أنعم اللّه عليهم ممن رفع اللّه درجتهم في خطّ الإسلام والإيمان باللّه والسير في مواقع رضاه .
المغضوب عليهم والضّالون:
وفي مقابل هؤلاء ،هناك فريق «المغضوب عليهم » الذين اختاروا الكفر على الإيمان ،والشرك على التوحيد ،والمعصية على الطاعة ،والانحراف على الاستقامة ،مع وضوح الحجّة على الإيمان في إشراقة العقل ،وعلى التوحيد في حركة الفكر ،وظهور الخير في حركة الطاعة في خطّ الاستقامة على درب اللّه ،فلم يبتعدوا عن الصراط المستقيم انطلاقاً من شبهةٍ ،بل ابتعدوا من موقع العناد والإصرار على التمرّد والتحدّي للّه في مواقع ألوهيّته ،فاستحقوا غضب اللّه عليهم لأنهم لا يملكون أساساً عقليّاً لموقفهم المعاند المتمرّد ،بل هناك الأساس المضادّ للإنسانية العقلانية التي تفرض الخضوع للحقّ الثابت بالحجّة الواضحة ،والالتزام بكلّ النتائج المترتبة عليه ،ما يجعل من الغضب المنفتح على العقاب الأخرويّ نتيجةً طبيعيّةً لذلك ،فيما هي العلاقة بين السبب والنتيجة .
وهناك فريق الضالّين الحائرين بين الكفر والإيمان ،لأنهم عاشوا الغفلة عن مسألة الفكر العقيدية في مجالات التوحيد ،والرسالة واليوم الآخر ،واستسلموا للأفكار الموروثة التي عاشوا قداستها من خلال قداسة العلاقة بالآباء والأجداد ،أو من خلال استغراقهم في المألوف من أفكار البيئة التي عاشوا فيها ،في عملية انجذاب لكلّ الأوضاع المتحرّكة في داخلها أو المحيطة بها ،وتأثروا بكلّ المشاعر المتنوّعة في مؤثراتها النفسية وبكلّ الإيحاءات المختلفة في أبعادها الذاتية ،الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى كلّ ذلك ،كما لو كان هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .ثُمَّ تتطور المسألة إلى ما يشبه التعصب الذي يرفض الرأي المضاد كما يرفض التفكير فيه ،لأنه لا يريد أن يبتعد عن المألوف من الفكر الذي تربّى عليه ،أو لا يريد أن يتعب نفسه بالتفكير في ذلك ،بل يواجه المسألة بطريقة اللاَّمبالاة على أساس الاسترخاء الفكري والعاطفي .
وهؤلاء الضالّون لا يملكون الحجّة على ضلالتهم ،لأنَّ اللّه خلق لهم عقولاً ،وأراد لهم أن يحرّكوها في عملية إنتاج الفكر الذي يهدي إلى الحقّ ،وخلق لهم أسماعاً وأبصاراً وألسنةً ،يستطيعون من خلالها أن يملكوا الوسائل التي توصلهم إلى معرفة المفردات الكونية والإنسانية ،والتي ينطلقون من خلالها إلى الإيمان باللّه ورسله واليوم الآخر ،كما أرسل إليهم رسلاً يبلِّغونهم رسالات اللّه في الدائرة التي يمكن للعقل أن ينحرف فيها عن الصواب ،أو التي لا يملك خلالها الوسائل الطبيعية لمعرفته بشكلٍ مباشرٍ ،وأودع في كيانهم قلق المعرفة الذي يدفعهم للبحث والتأمّل عند إثارة الشك أو الاحتمال في داخلهم ،بحيث يشعرون بالتقصير عندما يتجمّدون أمامه ،ولا يتحرّكون للتعرّف على طبيعة المضمون الذي يثيره في آفاق النفس إزاء الواقع .
الثقافة المتحركة:
وهكذا تمثّل هذه الفقرة من السورة جولة أفق فكريّةً وشعوريّةً في مواقع النّاس الذين يتحرّكون بطرقٍ مختلفة أمام مسألة الالتزام بالفكر الحقّ ،سلباً أو إيجاباً ،ليحدّد الإنسان موقعه الفكري والعملي في عملية إيحاءٍ ذاتي يتلمّس فيها قضايا الحقّ ليختزنها في داخل كيانه ،فيرفعها إلى ربّه مبتهلاً إليه بأن لا يجعله من السائرين في الطريق التي تؤدي إلى غضبه ،ولا يتركه مع السائرين في متاهات الضلال في الطريق التي لا يملك فيها الملامح التي تؤدي به إلى النتائج الحاسمة في المصير ،بل يجعله من الذين عاشوا نعمة السير في الطريق المستقيم في ألطاف الهداية الإلهية .
وهذا ما يدفعه إلى البحث الدائم عن الواقع الذي يحيط به ،ليميّز بين الطريق المستقيم والطريق المنحرف ،وليتعرف كيف يسير النّاس من حوله ،ما يجعل عنده ثقافةً متحركةً على صعيد أفكار النّاس وأوضاعهم ،لأنَّ الذي لا يعرف الخطّ المنحرف ،أو الخطّ الضائع ،لا يستطيع أن يعرف الخطّ المستقيم .
من هم المغضوب عليهم والضالون ؟
ورد في بعض الرِّوايات ،أنَّ المغضوب عليهم هم اليهود وأنَّ الضالين هم النصارى .ولكن ذلك لا يحصر مداليل السورة في هذين النموذجين من النّاس ،لأنَّ ذلك قد يكون على نحو المثال ،كما هي طريقة القرآن في مواقع النزول للآيات ،في ما تتحدّث عنه روايات أسباب النزول .وقد ورد أنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ،فلا يتحدّد في المنطقة التي ينزل فيها ،ولا في الشخص الذي ترد فيه .
وربما كان ذكر اليهود ،كمثالٍ للمغضوب عليهم ،ناشئاً من الصورة المتكررة التي أبرزها القرآن لهؤلاء النّاس في نقضهم الميثاق ،وقتلهم الأنبياء بغير حقّ ،وكتمانهم لما أنزله اللّه من الحقّ على رسوله في كتابه ،ونحو ذلك من القضايا التي تجعلهم يستحقّون غضب اللّه عليهم ؛بينما كان النصارى متميّزين بالصفات الطيّبة ،باعتبار أنَّهم أقرب النّاس مودّةً للذين آمنوا [ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] [ المائدة:82] ،وأنهم [ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ] [ المائدة:83] حزناً ،ولكن مشكلتهم أنهم انحرفوا عن الرسول فلم يؤمنوا به ،وأنّهم قالوا إنَّ اللّه ثالث ثلاثة ،ونحو ذلك من التصوّرات الخاطئة في العقيدة ،ولم يتحدّث عنهم بطريقةٍ قاسيةٍ كالطريقة التي تحدّث بها عن اليهود الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا ،بالإضافة إلى المشركين .
ومن خلال ذلك ،نستطيع أن ننفتح على التيارات الفكرية المضادة للإسلام التي يمكن إدراجها تحت عناوين دوائر المغضوب عليهم والضالين ،تبعاً لنوعية الحالة النفسية ،والسلوك العدواني ،بالإضافة إلى الخطأ والانحراف في العقيدة .
وهذا ما ينبغي للدعاة إلى اللّه أن يواجهوه في خطّ التربية في توعية النّاس حول النماذج المضادّة للتفكير الإسلامي ،فلا يكون الموقف واحداً ،بل لا بُدَّ من أن نفرّق بين الحالات العدوانية التي تتحولفي بعض الأحوالإلى حالةٍ عنصريةٍ ،وبين الحالات العادية في الخلاف الفكري التي يمكن أن تتحول إلى حالةٍ من اللقاء القائم على مواطن الاتفاق ،ليكون ذلك مدخلاً إلى الحوار في مواطن الخلاف ،الذي يفضي بدوره إلى نوعٍ من الوفاق في غياب الحالة النفسية المتشنّجة المعقدة .