الآية
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ( 6 )
التّفسير
خطّان منحرفان !
هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة ،إنّه صراط المشمولين بأنواع النعم ( مثل نعمة الهداية ،ونعمة التوفيق ،ونعمة القيادة الصالحة ،ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة ) لا المشمولين بالغضب الإِلهي بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم ،ولا الضائعين التائهين عن جادة الحق والهدى: ( صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالِّينَ ) .
ولإننا لسنا على معرفة تامّة بمعالم طريق الهداية ،فإن الله تعالى يأمرنا في هذه الكريمة أن نطلب منه هدايتنا إلى طريق الأنبياء والصالحين من عباده: ( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) ،ويحذّرنا كذلك بأن أمامنا طريقين منحرفين ،وهما طريق ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) ،وطريق ( الضّالّينَ ) ،وبذلك يتبين للإِنسان طريق الهداية بوضوح .
بحثان
1من هم ( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ؟
الذين أنعم الله عليهم ،تبيّنهم الآية الكريمة من سورة النساء إذ يقول: ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ){[68]} .
والآيةكما هو واضحتقسم الذين أنعم الله عليهم على أربع مجاميع: الأنبياء ،والصديقين ،والشهداء ،والصالحين .
لعل ذكر هذه المجاميع الأربع ،إشارة إلى المراحل الأربع لبناء المجتمع الإِنساني السالم المتطوّر المؤمن .
المرحلة الاُولى: مرحلة نهوض الأنبياء بدعوتهم الإلهية .
المرحلة الثانية: مرحلة نشاط الصديقين ،الذين تنسجم أقوالهم مع أفعالهم ،لنشر الدعوة .
المرحلة الثالثة: مرحلة الكفاح بوجه العناصر المضادة الخبيثة في المجتمع .وفي هذه المرحلة يقدم الشهداء دمهم لارواء شجرة التوحيد .
المرحلة الرابعة: هي مرحلة ظهور «الصالحين » في مجتمع طاهرينعم بالقيم والمثل الانسانية باعتباره نتيجة للمساعي والجهود المبذولة .
نحنإذنفي سورة الحمد نطلب من اللهصباحاً مساءاًأن يجعلنا في خط هذه المجاميع الأربع: خط الأنبياء ،وخط الصديقين ،وخط الشهداء ،وخط الصالحين .ومن الواضح أنّ علينا أن ننهض في كل مرحلة زمنيّة بمسؤوليتنا ونؤدي رسالتنا .
2من هم ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) ،ومن هم ( الضَّالِّينَ ) ؟
يتضح من الآية الكريمة أن ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) و ( الضّالِّينَ ) مجموعتان لا مجموعة واحدة ،وأما الفرق بينهما ففيه ثلاثة أقوال:
1يستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أنّ «المغضوب عليهم » أسوأ وأحطّ من «الضّالّين » ،أي إنّ الضّالين هم التائهون العاديّون ،والمغضوب عليهم هم المنحرفون المعاندون ،أو المنافقون ،ولذلك استحقوا لعن الله وغضبه .
قال تعالى: ( وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ){[69]} .
وقال سبحانه: ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَوْءِ ،عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ){[70]} .
( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) إذن يسلكونإضافة إلى كفرهمطريق اللجاج والعناد ومعاداة الحق ،ولا يألون جهداً في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة الإِلهية .
يقول سبحانه: ( وَبَآءُوا بِغَضَبِ مِنَ اللهِ ...ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ){[71]} .
2ذهب جمع من المفسرين إلى أن المقصود من ( الضّالِّينَ ) المنحرفون من النصارى ،و ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ )المنحرفون من اليهود .
هذا الفهم ينطلق من مواقف هذين الفريقين تجاه الدعوة الإِسلامية .فالقرآن يصرّح مراراً أنّ المنحرفين من اليهود كانوا يكنون عداءاً شديداً وحقداً دفيناً للإِسلام .
مع أن علماء اليهود كانوا من مبشّري ظهور الإِسلام ،لكنهم تحوّلوا إلى أعداء ألدّاء للإِسلام لدى انتشار الدعوة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها ،منها تعرّض مصالحهم المادية للخطر .( تماماً مثل موقف الصهاينة اليوم من الإِسلام والمسلمين ) .
تعبير ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) ينطبق تماماً على هؤلاء اليهود ،لكن هذا لا يعني حصر مفهوم المغضوب عليهم بهذه المجموعة من اليهود ،بل هو من قبيل تطبيق الكلي على الفرد .
أما منحرفو النصارى فلم يكن موقفهم تجاه الإِسلام يبلغ هذا التعنت ،بل كانوا ضالين في معرفة الحق .والتعبير عنهم بالضالين هو أيضاً من قبيل تطبيق الكلي على الفرد .
الأحاديث الشريفة أيضاً فسّرت ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) باليهود ،و( الضَّالِّينَ )بمنحرفي النصارى ،والسبب في ذلك يعود إلى ما ذكرناه{[72]} .
3من المحتمل أن ( الضَّالِّينَ ) إشارة إلى التائهين الذين لا يصرّون على تضليل الآخرين ،بينما ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) هم الضالّون والمضلّون الذين يسعون إلى جرّ الآخرين نحو هاوية الانحراف .
الشاهد على ذلك حديث القرآن عن المغضوب عليهم بوصفهم: ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ )( هود ،19 ) إذ يقول: ( وَالذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَديدٌ )( الشورى ،16 ) .
ويبدوا أن التّفسير الأول أجمع من التّفسيرين التاليين ،بل إن التّفسيرين التاليين يتحركان على مستوى التطبيق للتفسير الأول .ولا دليل لتحديد نطاق المفهوم الواسع للآية .
والحمد لله رب العالمين
( نهاية سورة الحمد )