{فَاخْتُلِفَ}: الاختلاف: ذهاب كل واحد إلى جهة غير جهة الآخر .
{شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}: شك مريب: مثل عجب عجيب ،أو ظل ظليل ،أي: قوي دائم ،ومعناه: ترجيح الكذب على الصدق .
إختلافهم في كتاب موسى ( ع )
...ويبقى تاريخ الرسالات خاضعاً للصراع الذي يخوضه الرسل في ساحة الفكر والعمل ،ضدّ مَنْ يحاربون الحقيقة ،في مجال البحث والممارسة ،بل ويريدون للحياة أن تتحرك في الخطوط المنحرفة حيث تكثر المنعطفات ،وتختلف الغايات ،خلافاً للخط المستقيم الذي تتمثل فيه حقيقة القضايا في ظل وضوح الرؤية ؛ولذلك فهم يختلفون في ما لا يُختلف فيه ،ويثيرون النزاع في ما لا يوحي بالنزاع ،بهدف استثارة وبث الأوهام في مواجهة الحقيقة ،لإسقاط الفكرة .
ولم يكن كتاب موسى بدعاً من الكتب التي أنزلها الله على رسله ،ولم يكن موسى فريداً في التحديات التي واجهته ،{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}الذي أردناه حكماً بين الناس ،وفرقاناً بين الحق والباطل ،ليحل لهم المشكلة ،وليوضح لهم الحقيقة ،وليحسم لهم الأمور في ما اختلفوا فيه ،لأنه الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،ولكن هؤلاء المعقّدين لم يلتقوا بالوضوح البارز فيه ،فحاولوا أن يثيروا الضباب حوله ،ليحجبوا الرؤية عنه ،{فَاخْتُلِفَ فِيهِ} من موقع البغي والحسد وما إلى ذلك من عوامل شريرة ذاتية ،فانحرفوا عنه ،وابتعدوا عن صراطه المستقيم ،وكان من الممكن لله القادر على كل شيء أن يعذّبهم في الدنيا ،ولكن حكمته اقتضت أن يفسح لهم المجال ،وأن يمهلهم ليأخذوا حريتهم في اختيار الطريق الذي يريدونه لأنفسهم ،وليملي لهم ما شاء من الإملاء ،زيادة في إقامة الحجة عليهم ،حتى لا يترك لهم مبرّراً ،في أيّ موقع من مواقع الشبهة .
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في ما اختلفوا فيه ،في عملية حاسمة لا مجال فيها للتردد ،لأنها تتمثل في العذاب الذي ينزل على المتمردين ،{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} لأنهم لا يرتكزون على أساس متين في مصادر هذا الشك وموارده ،بل يرجعون فيه إلى ما يطوف في فكرهم من خيالات وأوهام ،وما يثور في حياتهم من أهواء وأطماع ،مما يوحي بالريب في الدوافع والخيالات ،أكثر مما يوحي بالفكر وبالجدّية في مواجهة الأفكار .