{وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي} في ما عملته وأقدمت عليه ،لأنها ككل النفوس التي تتحرك فيها الغرائز ،وتثور فيها الشهوات لتدفع أصحابها إلى الخطيئة ،{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} بما يكمن في داخلها من نوازع السوء وتهاويله ،{إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} في ما يعصم الإنسان ،ويثيره في نفسه من عوامل الهداية ،{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر الذنب لمن تاب وأناب إليه ،ويرحم عبده الذي يسقط أمام نقاط الضعف ،ثم يحاول أن يستقيم ليتابع السير في خط الطاعة والإيمان .
يوسف( ع ) يُخضع المجتمع لإيمانه القوي
وهكذا وقفت هذه المرأة المتمرّدة المتعالية ،خاشعةً أمام الله ،في موقف نقدٍ ذاتيٍّ يدفعها إلى الجهر بالحقيقة التي كانت تحاول إخفاءها وإلصاق التهمة بيوسف ،مرتكزةً في ذلك على القيم الفاسدة للمجتمع التي تعطي للقويّ الحقّ في إلصاق التهمة بالضعيف ،وإدخاله السجن على ذنبٍ لم يرتكبه ،ويبقى القوي خارج دائرة الإدانة ،لأنه فوق مستوى الاتهام ،على أساس التقاليد الطبقيّة ،التي تجعل العدالة خاضعةً للتمييز العنصري ،وقد كان لثبات يوسف بإيمانه القويّ ،وشعوره بالقوّة الكبيرة داخل ذاته ،وإصراره على تحمل أقسى الالام مستقيماً على خط الرسالة أكبر الأثر في إخضاع المجتمع ،الذي تمثل امرأة العزيز القمّة فيه ،كما أضاف حاجة الملك إليه ،عنصر قوة جديدة إلى رصيده قرّبه من مستوى الطبقة التي أدانته إن لم ترفعه فوقها ،مما أحدث هزّةً عنيفةً في داخل الشعور ،وحركةً يَقظَةً في أعماق الضمير ،وهذا ما ساهم بإيضاح الحقيقة وإعلانها أمام الملأ ،لا سَيّما أن الملك يريد ذلك .
ولم تقف القضية عند حاجة الملك ،بل امتدّت إلى داخل الروح ،لتتحوّل إلى حالة مناجاةٍ ذاتيةٍ ،تضع الظاهرة المنحرفة في موقعها الطبيعيّ من حركة الغرائز في داخل الجسد وحركة الانحراف في واقع النفس ،لأن الغرائز عندما تستيقظ في الجسد وتلتهب ،توحي للنفس بمختلف الأفكار والأهواء ،وتدفعها إلى التمرد والعصيان والانحراف ،ولكنها لا تقف أمام ذلك ،في دائرة القضاء الحتميّ الذي لا فكاك منه ،بل يمكن لها أن تتحرر منه في آفاق رحمة الله التي توحي للنفس بالهداية ،وللخطوات بالاستقامة ،وللإرادة المنحرفة بالتراجع نحو الإرادة المستقيمة ،وهذا ما يعيشه الإنسان بين يدي الله في وقفته الخاشعة في حالة التوبة التي تتعلق بمغفرة الله ورحمته ليفسح لها المجال في رضوانه ،ويقبلها في خطّ هداه .
وقد نستوحي من موقف يوسف المتعالي على السجن ،الواثق بنفسه ،كيف يمكن للمؤمن العامل في سبيل الله ،الداعي إلى دينه ،أن يملك الإصرار على موقفه ،في مواقع التحدي ،ويتحمل الألم والحرمان ،ليعطي الصورة الواضحة عن قوّة الموقف الإيماني المرتكز على العقيدة الحقّة ،وليدفع الآخرين إلى التراجع عن مواقفهم المهزوزة ،والانتقال إلى الخط الصحيح الذي يؤديّ بهم إلى الخير والرحمة والفلاح .