تملص الشيطان من مسؤولية الضلال
ولعل من الطريففي هذا الحوارأن الشيطان يتدخل كطرفٍ ثالث ،ليبرِّىء نفسه من مسؤولية ضلال كلا الطرفين ،التابعين والمتبوعين ،مؤكداً الفكرة الدينية التي تقرر حرية الإرادة التي فطر الله الإنسان عليها ،فليست هناك قوّةٌ قاهرةٌ ٌتشلّها بدون اختيار صاحبها ،حيث يورد القرآن الكريم:
{وَقَالَ الشَّيْطاَنُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} وحسمت المواقف ،وانطلقت إرادة الله التي تقود االكافرين والعاصين إلى النار ،وتقود المؤمنين إلى الجنة ،ولم يبق هناك مجال للدفاع أو للاعتذار ،فقد جاء إبليس ليتخفف من بعض ثقل المسؤولية التي يحملها الناس له في عملية الإغواء والإضلال ،ليجعلها على عاتق الناس الضالين:{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} ،بالجنة للطائعين المؤمنين ،وبالنار للعاصين المتمردين{وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} ،في ما منّيتكم به ودفعتكم إليه ،مما لم يتحقق ،لأن الأمر كان مجرّد خدعةٍ وتضليل ،من أجل تحقيق ما أريده من إضلالكم ،وقد عرّفكم الله طبيعة الدور الذي أقوم به في حياتكم ،وهو دور الإغراء والخديعة والتزيين وتصوير الحق بصورة الباطل ،والباطل بصورة الحق ،وتشويه الصورة الجميلة ،وتجميل الصورة المشوّهة ،بما أملكه من وسائل وأدوات .وهذا هو كل شيء في دوري معكم ،ولا أملك معه أيّة قوّةٍ إضافية تمكنني من الضغط على إرادتكم بطريقةٍ قاهرةٍ{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} ،بما تتضمنه أساليب الدعوة وأجواؤها من عناصر الإغراء والإغواء{فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} لأنني أتحرك في وسائلي وأهدافي من خلال الخط الواضح الذي أعلنت السير فيه أمام الله ،منذ طلبت منه الانتظار إلى يوم القيامة .ولكن ماذا عن دوركم أنتم ،لماذا لم تلتفتوا إلى أساليبي ووسائلي وغاياتي التي عرّفكم الله إياها ،وقد أرسل إليكم الرسل ليحذروكم مني ،وخلق لكم العقل الذي يستطيع أن يحاكم كل الدعوات التي أثيرها في حياتكم ،وكل التهاويل والأحاسيس التي أعمل في سبيل الضغط على مشاعركم من خلالها ؟فليتحمّل كل واحد منا مسؤولية نفسه ،{مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} فإذا استغثتم بي من العذاب ،فلن أستطيع أن أدافع عنكم{وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} فلا تملكون لي شيئاً إذا استصرختكم واستغثت بكم ،{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} ،فأنا لا أقر ولا أعترف بجعلكم إياي شريكاً لله في العبادة ،{إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وهكذا أغلق الملف الذي يمثل هذه الحالة التي تتحرك فيها الضغوط النفسية أو الجسدية لتلغي إرادة فريقٍ من الناس ،تحت تأثير العوامل الداخلية والخارجية ،ليواجه الجميع مسؤوليته ،من موقع حرية الإرادة التي تستطيع أن تعبّر عن نفسها بألف طريقةٍ وطريقةٍ ،كما لو لم يكن هناك ضغط ،لا من المستكبرين ،ولا من الشيطان نفسه الذي يحمّله الناس كلهم مسؤولية إضلالهم ويلعنونه لذلك .فليس هناك سلطة في الإضلال حتى للشيطان ،بل كل دوره هو أن يوسوس ويثير ويدعو الإنسان إلى الاستجابة له ،بعيداً عن دعوة الله ،وتلك هي مهمته الأساسية ،ويبقى ،بعد ذلك ،للإنسان دوره في التفكير والمقارنة بين دعوة الله ودعوة الشيطان ،فإذا سار مع دعوة الله ،كان ذلك باختياره ،وإذا انطلق في طريق الشيطان ،فبإرادته سارت خطواته ،فلماذا يلقون اللوم على الشيطان ،ولا يلقون اللوم على أنفسهم ،في الوقت الذي لم يكن منه إلا إثارة مكامن الشهوة ،وتزيينها للنفس ،بينما كان منهم التصميم والإرادة والعمل ؟!
وهكذا تأخذ الفكرة مجالها الطبيعي في الكلمة الأخيرة للشيطان ،التي يقرر فيها حمل الإنسان لمسؤولية إرادته ،في مقابل حمل الشيطان لمسؤولية وسوسته وإضلاله ،دون أن يستطيع أحدهما تخليص الآخر .
ويبرز في خاتمة المطاف العنصر المثير الذي يجعل الشيطان يكفر بإشراكهم إياه بالله ،ليبقى الإنسان المنحرف المتمرّد على الله ،وحده ،دون ناصر أو معين .
ويدخل الجميع النار ،ويبقى هناك فريق واحد ،لم يستسلم للمستكبرين ،لأنه كان يملك قوة الموقف الذي يستطيع من خلاله أن يتمرّد على كل طروحاتهم ،ويتحدّى كل ضغوطاتهم ،ويواجه كل ألاعيبهم ،ولم يستسلم للشيطان ،بعدما اكتشف خداعه وتضليله ،وعرف كل النتائج السلبية التي تحصل من اتباعه والسير معه ،واستطاع هذا الفريق أن يكتشف الطريق المستقيم الذي يؤدّي به إلى الله ،ويربطه بالجانب الخيّر من الحياة .