تلك هي المجاوبة التي بين التابع والمتبوع ، والشيطان مصدر ضلالهم وإغوائهم وهو كالمتفرج عليهم ولكنه غير ناج:{ وقال الشيطان لما قضي الأمر} أي أحكم وفصل فيه ، ولم يكن لحكم الله مرد ولا نقص ،{ إن الله وعدكم وعد الحق} ، أي وعد هو الحق ، فالإضافة بيانية ، أي الأمر الصحيح الثابت الصادر من مالكه ، وهو الذي يجازي عليه بالثواب وعلى مخالفته بالعقاب ، والفعل في ذاته نفع لا ضرر فيه ، وخير لا شر فيه ، وكان عليكم أن تطيعوه ، ولا تخرجوا عليه .
{ ووعدتكم فأخلفتكم} ولم يذكر وصف وعده ؛ لأنه مفهوم من وصف الأول بأنه الحق ومقابله باطل ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وترك لأنه مفهوم من السياق ، ولكي تذهب مذاهب فيما يعد به الشيطان إنه لا يعد إلا بما يكون من ورائه الفساد والبوار ، والعبث والشر ، فهو ليس باطلا فقط بل أكثر من باطل إمعانا في الشر ، وقوله:{ فأخلفتكم} ، أي منيتكم الأماني الباطلة ، وأودعت نفوسكم الأوهام ، وزينت لكم السوء لتحسبوه أنه حق ، وإسناد الإخلاف إليه – لعنه الله تعالى – مع أن الإخلاف من الله تعالى ، وبيان كذب ما وعد وألقى به في أمنية الناس ؛ لبيان أنه وهو يعد يعلم أنه باطل وأنه إغواء ، فكأنه هو الذي أخلف لأنه يعلم أنه كذب لا حقيقة بل هو وهم وضلال .
بعد ذلك اتجه الشيطان لتبكيتهم لأنهم أطاعوه ، فقال:{ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} ، أي أجبتم دعوتي الخالية من أي تسلط أو دليل طالبين ذلك مجيبين له ، فما كانت تبعة طاعتكم لي علي ، إنما كانت عليكم ؛ ولذا قال:{ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} لقد كان أمامكم أمر الله ، وهو الخالق المنشئ ، ودعاكم إلى الحق ، ومعه الأدلة الثابتة وأمامكم دعوتي الخالية من البرهان والدليل ، وليس لي عليكم قوة مهيمنة إلى وسوسة خفية فأطعتموني وعصيتم ربكم .
وهذا شأن أتباع إبليس دائما يقعون في الشر ثم يلومون من أوقعوهم لأنهم أطاعوهم ، وإن الشيطان له عذاب ، وهو يصرخ بأنه فيه ، وإنه لا يستغيث ؛ لأن أحدا لا يغيثه ولا يستطيع أن يغيث أحدا ؛ ولذا جاء على لسانه قوله:{ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي} المصرخ هو المجيب للمستصرخ المغيث له ، والصارخ هو المستغيث والمعنى بمستطيع إغاثتكم وما أنتم بمستطيعين إغاثتي ، فالعذاب نازل بنا ، وعلى كل أن يتحمل مغبة ما عمل وما اعتقد وما وسوس به من ش .
وقد أعلن ضلاله وضلالهم بقوله:{ إني كفرت بما أشركتموني من قبل} ، ( ما ) هنا مصدرية أو موصولة ولا يختلف المعنى في التقديرين ، والمعنى:إني كفرت بالذي أشركتموني في عبادتكم من قبل ، أي كفرت الآن بشرككم في الدنيا ، وآمنت بالله تعالى وحده لا أشرك به شيئا ، وقال:أشركتموني مع أنهم ظاهرا ما كانوا يشركون الشيطان بل كانوا يشركون أوثانا . فلم نسب إليه أنهم كانوا يشركونه ؟ والجواب عن ذلك أن عبادتهم الأوثان كانت بوسوسته هو وتسويلهم ، والأصنام لا حقيقة لها ، فكأنهم كانوا يشركونه بالله سبحانه وتعالى ، وقوله تعالى:{ كفرت} تفيد أنه يكفر الآن ، مع أنه وهو الذي يزين عبادة الأوثان يعلم أن الله وحده هو المستحق للعبادة ، ولا معبودا سواه ، وأن عمله إغواء وإضلال ، فهو غير مؤمن بها من قبل ، والجواب عن ذلك:أنه الآن يعلن كفره بها .
ويقول الله تعالى واصفا العصاة بالظلم:{ إن الظالمين لهم عذاب أليم} تحتمل هذه الجملة السامية أن تكون تتميما لكلام إبليس ، وتحتمل أن تكون من الله لبيان استحقاق العصاة جميعا للعذاب ، وأرى أن الاحتمال الثاني هو الحق ، فهو بيان لتسجيل العذاب المؤلم في ذاته عليهم بسبب ظلمهم تابعين ومتبوعين ومغويهم معهم ، فهم ظلموا الناس ، وأفسدوا في الأرض فحقت عليهم كلمة العذاب .