قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:وقال إبليس ، (13) ( لما قُضِي الأمر ) ، يعني لما أدخل أهلُ الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ ، واستقرّ بكل فريق منهم قرارهم ، (14) إن الله وعدكم ، أيها الأتباعُ ، النارَ ، ووعدتكم النُّصْرة ، فأخلفتكم وعدي ، ووفى الله لكم بوعده ( وما كان لي عليكم من سلطان ) ، يقول:وما كان لي عليكم ، فيما وعدتكم من النصرة ، من حجة تثبت لي عليكم بصدق قولي (15) ( إلا أنْ دعوتكم ) . وهذا من الاستثناء المنقطع عن الأول ، كما تقول:"ما ضربْتُه إلا أنه أحمق "، ومعناه:ولكن (دعوتكم فاستجبتم لي ) . يقول:إلا أن دعوتكم إلى طاعتي ومعصية الله ، فاستجبتم لدعائي (16) ( فلا تلوموني ) ، على إجابتكم إياي ( ولوموا أنفسكم ) ، عليها ( ما أنا بمُصْرِخِكم ) ، يقول:ما أنا بمُغِيثكم ( وما أنتم بمصرخِيَّ ) ، ولا أنتم بمُغيثيَّ من عذاب الله فمُنْجِيَّ منه ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، يقول:إني جَحدْت أن أكون شريكًا لله فيما أشركتمون فيه من عبادتكم (من قبل) في الدنيا ( إن الظالمين لهم عذاب أليم ) ، يقول:إن الكافرين بالله لهم عذاب"أليم "، من الله موجِع . (17)
* * *
يقال:"أصْرَختُ الرجلَ"، إذا أغثته "إصراخًا "، و "قد صَرَخ الصَّارخ ، يصرُخ ، ويَصْرَخ ، قليلة ، وهو الصَّرِيخ والصُّراخ ". (18)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
20641 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية:( ما أنا بمُصْرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، قال:خطيبان يقومان يومَ القيامة ، إبليسُ وعيسى ابن مريم . فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول هذا القول . وأما عيسى عليه السلام فيقول:مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ،[سورة المائدة:117].
20642 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال:يقوم خطيبان يوم القيامة ، أحدهما عيسى ، والآخر إبليس . فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول:( إن الله وعدكم وعد الحق ) ، فتلا داود حتى بلغ:( بما أشركتموني من قبل ) ، فلا أدري أتمَّ الآية أم لا؟ وأما عيسى عليه السلام فيقال له:أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فتلا حتى بلغ:فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[سورة المائدة:116 - 118] .
20643 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر قال ، يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس ، يقول الله عز وجل:يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِإلى قولههَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، [سورة المائدة:116 - 119] . قال:ويقوم إبليس فيقول:( وما كان لِيَ عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ ) ، ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمُغيثيَّ.
20644 - حدثنا الحسين قال ، حدثنا سعيد بن منصور قال ، حدثني خالد ، عن داود ، عن الشعبي ، في قوله:( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) ، قال:خطيبان يقومان يوم القيامة ، فأما إبليس فيقول هذا ، وأما عيسى فيقول:مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ.
20645 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد قال ، أخبرني عبد الرحمن بن زياد ، عن دخين الحجري ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر الحديث ، قال:يقول عيسى:ذلكم النبيُّ الأميّ. فيأتونني ، فيأذن الله لي أن أقوم ، فيثور من مجلسي من أطيب ريح شَمَّها أحدٌ ، حتى آتي ربي فيشفعني ، ويجعل لي نُورًا إلى نور ، من شَعَر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثم يقول الكافرون:قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنكَ أنت أضللتنا . فيقوم ، فيثورُ من مجلسه أنتنُ ريح شَمَّها أحدٌ ، ثم يعظم لجهنّم ، (19) ويقول عند ذلك:(إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) ، الآية. (20)
20646 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، في قوله:( وما كان لي عليكم من سلطانٍ ) ، قال:إذا كان يوم القيامة ، قام إبليس خطيبًا على منبر من نار ، فقال:( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) ، إلى قوله:( وما أنتم بمصرخيّ ) ، قال:بناصريَّ ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، قال:بطاعتكم إياي في الدنيا.
20647 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك عمن ذكره قال ، سمعت محمد بن كعب القرظي ، قال في قوله:( وقال الشيطان لما قُضِيَ الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ) ، قال:قام إبليس يخطبهُم فقال:( إن الله وعدكم وعد الحق ) ، إلى قوله:( ما أنا بمصرخكم ) ، يقول:بمغنٍ عنكم شيئًا ( وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، قال:فلما سمعوا مقالته مَقَتُوا أنفسهم ، قالا فنودوا:لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، الآية[سورة غافر:10] .
20648 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سَعيد ، عن قتادة ، قوله:( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) ، ما أنا بمغيثكم ، وما أنتم بمغيثي قوله:( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، يقول:عصيت الله قبلكم.
20649 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله:( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) ، قال:هذا قولُ إبليس يوم القيامة ، يقول:ما أنتم بنافعيّ وما أنا بنافعكم (إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) قال:شركته ، عبادته.
20650 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال ، حدثنا الحسين قال:حدثنا ورقاءجميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله:( بمصرخيّ ) ، قال:بمغيثيّ.
20651 - حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
20652 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
20653 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
20654 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال:ما أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجيَّ.
20655 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد قال:خطيبُ السَّوْء الصادق إبليس ، (21) أفرأيتم صادقًا لم ينفعه صِدقهُ:( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان ) ، أقهركم به ( إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) ، قال:أطعتموني ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) ، حين أطعتموني ( ما أنا بمصرخكم ) ، ما أنا بناصركم ولا مغيثكم ( وما أنتم بمصرخيّ ) ، وما أنتم بناصريّ ولا مغيثيّ لما بي ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل إنّ الظالمين لهم عذاب أليم ) .
20656 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن الحكم ، عن عُمَر بن أبي ليلى أحدِ بني عامر قال:سمعت محمد بن كعب القرظيّ يقول:( وقال الشيطان لما قضي الأمر ) ، قال:قام إٍبليس عند ذلك ، يعني حين قال أهل جهنم:سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ، فخطبهم ، فقال:( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) ،إلى قوله:( ما أنا بمصرخكم ) ، يقول:بمُغْنٍ عنكم شيئًا ( وما أنتم بمصرخيَّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) . قال:فلما سمعوا مقالته مَقَتُوا أنفسهم ، قال:فنودوا:لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ،الآية [سورة غافر:10] . (22)
---------------------------
الهوامش:
(13) انظر تفسير "الشيطان "فيما سلف 1:111 ، 112 ، 296/ 12:51 .
(14) انظر تفسير "القضا "فيما سلف:107 ، ، تعليق:2 ، والمراجع هناك .
(15) انظر تفسير "السلطان "فيما سلف:537 ، تعليق:7 ، والمراجع هناك .
(16) انظر تفسير الاستجابة "فيما سلف:416 . تعليق:1 ، والمراجع هناك .
(17) انظر تفسير "الإشراك "و "أليم "فيما سلف من فهارس اللغة ( شرك ) ( ألم ) .
(18) "يَصْرَخُ "بفتح الراء ، وكذلك هي مضبوطة في المخطوطة ، ومضارع "صرخ "بفتح الراء لم أجد من نص عليه في المعاجم ، فهذا موضع زيادة .
(19) في المطبوعة "يعظم نحيبهم "، غير ما اتفقت عليه المخطوطة ، والدر المنثور ، وابن كثير . وهو ما أثبت ، وأنا في شك من الكلمة ، وظني أنها "يُقَطِّمُ لجهنَّم "، من قولهم "قَطَّم الشارب "إذا ذاق الشراب فكرهه ، وزوى وجهه ، وقطب .
(20) الأثر:20645 - "رشدين بن سعد المصري "، رجل صالح ، أدركته غفلة الصالحين ، فخلط في الحديث ، فليس يبالي عمن روى ، وهو ضعيف متروك ، عنده معاضيل ومناكير ، مضى مرارًا آخرها رقم:17729 .
و "عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني الإفريقي "، رجل صالح ، ولكنه منكر الحديث ، وإن وثقه بعضهم ، قال أبو الحسن بن القطان . كان من أهل العلم والزهد بلا خلاف بين الناس ، ومن الناس من يوثقه ، ويربأ به عن حضيض رد الرواية ، والحق فيه أنه ضعيف ، لكثرة روايته المنكرات ، وهو أمر يعتري الصالحين "، مضى أيضًا مرارًا آخرها رقم:14337 .
و "دخين الحجري "، هو "دخين بن عامر الحجري "، "أبو ليلي المصري "، روى عن عقبة بن عامر ، وعنه عبد الرحمن بن زياد ، ذكره ابن حبان في الثقات . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/234 ، وابن أبي حاتم 1/2/442 .
وهذا خبر ضعيف الإسناد ، لا يقوم . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4:74 ، وزاد نسبته إلى ابن المبارك في الزهد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن عساكر وقال:أخرجوه بسند ضعيف ، ونقله عن ابن أبي حاتم ، ابن كثير في تفسيره 4:557 .
(21) في المطبوعة:"إبليس الصادق "، أخر وقدم بلا داع مفهوم.
(22) الأثر:20656 - "الحكم المكي "، و "عمر بن أبي ليلى "، انظر ما سلف تعليقًا على الرقم:20639 ، وهو تتمة ذاك الخبر . وكان في المطبوعة هنا أيضًا "عمرو بن أبي ليلي ".