يخبر تعالى عما خطب به إبليس [ لعنه الله] أتباعه ، بعدما قضى الله بين عباده ، فأدخل المؤمنين الجنات ، وأسكن الكافرين الدركات ، فقام فيهم إبليس - لعنه الله - حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغبنا إلى غبنهم ، وحسرة إلى حسرتهم ، فقال:( إن الله وعدكم وعد الحق ) أي:على ألسنة رسله ، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة ، وكان وعدا حقا ، وخبرا صدقا ، وأما أنا فوعدتكم وأخلفتكم ، كما قال الله تعالى:( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) [ النساء:120] .
ثم قال:( وما كان لي عليكم من سلطان ) أي:ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به ، ( إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) بمجرد ذلك ، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه ، ( فلا تلوموني ) اليوم ، ( ولوموا أنفسكم ) فإن الذنب لكم ، لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل ، ( ما أنا بمصرخكم ) أي:بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه ، ( وما أنتم بمصرخي ) أي:بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال ، ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل )
قال قتادة:أي بسبب ما أشركتمون من قبل .
وقال ابن جرير:يقول:إني جحدت أن أكون شريكا لله ، عز وجل .
وهذا الذي قاله هو الراجح كما قال تعالى:( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [ الأحقاف:5 ، 6] ، وقال:( كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ) [ مريم:82] .
وقوله:( إن الظالمين ) أي:في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل ) لهم عذاب أليم )
والظاهر من سياق الآية:أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار ، كما قدمنا . ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم - وهذا لفظه - وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد:حدثني دخين الحجري ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا جمع الله الأولين والآخرين ، فقضى بينهم ، ففرغ من القضاء ، قال المؤمنون:قد قضى بيننا ربنا ، فمن يشفع لنا ؟ فيقولون:انطلقوا بنا إلى آدم - وذكر نوحا ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى - فيقول عيسى:أدلكم على النبي الأمي . فيأتوني ، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور [ من] مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط ، حتى آتي ربي فيشفعني ، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثم يقول الكافرون هذا:قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فمن يشفع لنا ؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا ، فيأتون إبليس فيقولون:قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنك أنت أضللتنا . فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ، ثم يعظم نحيبهم ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) .
وهذا سياق ابن أبي حاتم ، ورواه ابن المبارك عن رشدين بن سعد ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن دخين عن عقبة ، به مرفوعا .
وقال محمد بن كعب القرظي ، رحمه الله:لما قال أهل النار:( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) قال لهم إبليس:( إن الله وعدكم وعد الحق ) الآية ، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم ، فنودوا:( لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ) [ غافر:10] .
وقال عامر الشعبي:يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس ، يقول الله لعيسى ابن مريم:( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) إلى قوله:( قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) [ المائدة:116 ، 119] ، قال:ويقوم إبليس - لعنه الله - فيقول:( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) الآية .