ما بين التابع والشيطان
هاتان الآيتان تصوران المجاوبة التي تكون بين العصاة وأولهم الشيطان الذي أقسم ليغوين الناس إلا عباد الله المخلصين ، والطبقة التي استغواها ابتداء المتبوعون من ذوي الاستكبار والاستعلاء على الناس بالجاه الدنيوي والمال والعزة ، وهؤلاء يؤثرون في غيرهم فتكون الطبقة التابعة والإمعات{[1371]} الطائعة .
صور الله سبحانه أقوال التابعين وابتداء من الدنيا في العصيان إلى من أخذوهم إلى الضلال ، فقال تعالى:{ وبرزوا لله جميعا} ، أي ظهروا أمام الله جميعا وقد عصوه ، إذ أشركوا به أندادا لا تنفع ولا تضر ، وذلك بعد أن بعثهم الله تعالى ، وأنشرهم من قبورهم وجمعهم يوم الحشر فكانوا أمام الله ، وقد كذبوا بلقائه ، وقالوا:{. . .أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد . . .( 5 )} [ الرعد] ، والتعبير ب{ برزوا} فيه تذكير بالعيان لبطلان أقوالهم في الدنيا ، وجميعا:إشارة إلى أنه قد جمع التابع والمتبوع والأبيض والأسود ، والعربي والأعجمي ، وكانوا بين يدي الله وحده ، وكانت المجاوبة الآتية:{ فقال الضعفاء للذين استكبروا} الضعفاء:جمع ضعيف ، والضعيف يشمل ثلاثة أنواع ممن يستصفون بالضعف:
أولهم:الأرقاء والفقراء والأرذلون في معيشتهم في الدنيا ، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا وفيهم ذلة لم يزيلوها بالإيمان .
وثانيهم:الضعفاء في تفكيرهم الذين يرضون بأدنى فكرة ويتبعون غيرهم اتباعا من غير دليل ، بل في استكانة ، وإن كانوا أقوياء في مالهم فهم ضعفاء في نفوسهم .
وثالثهم:الذين يتبعون القوة دون دليل .
يقولون للذين استكبروا من الكبراء ذوى الوجاهة والقيادة في الضلال:{ إنا كنا لكم تبعا} ، وتبع جمع تابع ، أو مصدر نعت به ، ويكون معنى التعبير هو الإيغال في التبعية كأنهم لا وجود لهم{ فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} الفاء تدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها ، أي بسبب هذه التبعية هل أنتم مغنون عنا عذابا من عذاب الله من شيء{ من} الأولى للتبعيض ، ومن الثانية للاستغراق ، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع ، أي لستم مغنون عنا بأي قدر من عذاب .
أجاب الذين استكبروا عن الحق ، فقد أجابوا عن هذا الاستفهام الإنكاري ، الذي لا يخلو من معنى التوبيخ والملامة حيث لا لوم قائلين:{ لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} ، والمعنى أننا على سواء ، لو هدانا الله إلى الحق لهديناكم إليه ولكنا ضللنا فضللتم ، وإنكم تبعا لنا فارتضوا بما وقع لنا ، ولا يخلو هذا الكلام من إلقاء اللوم عليهم في التبعية من غير تفكير وتبرير ، وكأنهم يشيرون إليهم إلى أنهم كان عليهم أن يتبعوا عن بينة .
ثم يقولون لهم:إننا وقد وقعنا في الضلال علينا أن نذوق مغبتها طائعين ؛ لأننا مجبرون ، وفي آية أخرى صرح الكبراء فقالوا:{. . .فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ( 39 )} [ الأعراف] .
وفي هذه الآية يقولون:{ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} سواء معناها يستوي علينا جزعنا أم صبرنا ، فالجزع لا يحول الشر عنا ، والصبر لا يمنع الأذى . وقد فسروا هذه التسوية بقولهم:{ ما لنا من محيص} ، أي منجاة من العذاب ، أو مهرب منه أو متحول من هذه الحال إلى غيرها ، ومحيص:من حاص حيصا ، وهو التحول ، أي مالنا من تحول ، ومحيص هنا إما أن يخرج القول على أن محيص اسم مكان ، ومكانهم جهنم ، أي ما لنا تحول عن هذا المكان ، أو مصدر ميمي ، أي ما لنا تحول عما نحن فيه ، فالأمر لله .