{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ}:ظهروا له .
{مُّغْنُونَ}: دافعون .
{مَّحِيصٍ}: منجى ومهرب .
حوار الضعفاء والمستكبرين والشيطان يوم القيامة
تتناول الآيات موقف المواجهة الصعب يوم القيامة ،بين الضعفاء والمستكبرين من جهةٍ ،والعذاب الذي يلقونه جميعاً عقاباً على ما عملوا وما أسلفوا من خطايا وذنوبٍ وجرائم ،كانت تجسّد التمرد على الله وعلى رسله وشرائعه ،من جهة أخرى ،في حوار تتنوع طبيعته تبعاً لاختلاف مواقع أطرافه والعلاقات التي كانت سائدة بينهم ،ونجد في هذه الآيات النموذج الرائع الذي يوضح لنا الفكرة بأسلوب حيّ .
وبرزوا لله جميعا
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جميعاً} ظهروا لله في موقف المسؤولية الحاسم الذي لا يملكون فيه إلا النطق بالحق ،بعيداً عن كل عوامل القوّة والضعف التي كانت تحكم علاقاتهم في الحياة ،فهم الآن متساوون أمام الله بصفتهم الحقيقية التي توحدهم جميعاً كعبيد أمامه .
{فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} لقد كنا نمثل الفئة المسحوقة التي لا تملك أن تريد أو لا تريد بما تعنيه التبعية في كل شيء .
إن الآية تؤكد لنا كيف واجه الجميع نتائج المسؤولية في عذاب الله ،وإن اختلفوا في نوعية العذاب ،وتصور لنا موقف أولئك الذين أخضعوا إرادتهم لإرادة الآخرين ولنزواتهم في حين كانوا يستطيعون تحرير أنفسهم وإرادتهم من تلك التبعية ،ولكنهم خضعوا أمام مظاهر القوة ومطامع المال التي ساقتهم للسير خلف المستكبرين دون وعيٍ ولا شعور .
إنهم الآن يستيقظون على ما وصلوا إليه من واقع يحاولون التخلص من بعض قسوته على الأقلّ ،متوجهين إلى من كانوا يتبعونهم في كل شيء ،طالبين منهم تحمل تبعاتهم في الآخرة ،مقابل ما تحمّلوه من تبعاتهم في الدنيا ،تماماً كما كان الحال في الدنيا ،حيث كان الرئيس يقدم لأتباعه الحماية من المتاعب والمشاكل ،مقابل ما يقدمونه من خدمات تصل إلى درجة المخاطرة بالحياة .
وينطلق سؤالهم ،بلهجةٍ متوسّلةٍ يائسةٍ ،تحمل كثيراً من خيبة الأمل ،وعدم الثقة بالنتيجة ،كما توحي كلمة «من شيء » في سؤالهم{فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} ،أي شيء ،ولو بالمقدار الذي يخفف عنا قسوته وشدّته ؟
وتجسد الصورة القرآنية تهرب أولئك المستكبرين ،باعتبار الموقف يائساً من كلا الطرفين ،فهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ،فكيف يملكون لأتباعهم الحماية ،حيث لا متسع للحساب ،ولا مجال للهروب ،بل أمامهم الاستسلام اليائس للمصير الذي تعبر عنه هذه الكلمة القرآنية أبلغ تعبير:{قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} ،لأن المشكلة أننا ابتعدنا عن الله وتمرّدنا عليه ،ولم نهتد بهداه ،بعد أن أقام علينا الحجة وتركنا لأنفسنا ،دون أن يتدخل بقوّته لفرض الهداية علينا ،فضللنا وأضللناكم لأنكم جعلتم حياتكم تبعاً لحياتنا .لذا نقف هناجميعاًوجهاً لوجهأمام نتائج المسؤولية الصعبة ،دون أن يكون هناك فرق بيننا في الموقف ،لأننا مشتركون في تجميد إرادة الحق في وعينا ،في ما يحكم به العقل والوجدان ،والذي جاءت به الكتب وبلغه الرسل ،واتبعنا شهواتنا ومطامعنا ،فلا بد لنا من أن نواجه الحقيقة ،بكل صعوبتها وقسوتها{سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} ،ومهرب من المصير الأسود الذي لا نملك إلا أن نتقبّله ونخضع له ،لأننا لا نملك له تغييراً ،سواء سقطنا جزعاً أو استسلمنا للصبر .
وقد نفهم من جواب هؤلاء المستكبرين ،نوعاً من الهروب من طبيعة المسؤولية ،فهم لا يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن ضلال أتباعهم ،لأن الهداية تكون من الله ،فإذا لم يوفّرها لهم ،فكيف يمكن أن يوفروها هم لغيرهم .وفي ذلك تجسيد لغاية اليأس في الموقف .
فالله يريد من خلال هذا النص أن يصوّر للمستضعفين في الدنيا ،كيف تتجسّد مواقف الندم واليأس في الآخرة ،ليواجهوا واقعهم ،مواجهة من سيتحمل مسؤوليته وحده ،ولذا فإن عليه أن يبدأ الحساب على هذا الأساس .