{بَلاغٌ}: التبليغ على ما ذكره الراغب
مقاصد تنزيل الكتاب
{هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ} أنزله الله على نبيه ،ليحدّد الفواصل بين الحق والباطل ،وبين الخير والشرّ ،{وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} ليفكروا من موقع المسؤولية ،بواقعيةٍ وموضوعيةٍ ،فهو يتضمن منهجاً في التفكير وأسلوباً للحوار لا يسمح للخلاف أن يتحول إلى عقدة ذاتية لدى أطرافه ،بل يجعله أرضية للتجاذب الفكري الذي يخضع للبراهين القويّة والبيّنات الواضحة ،ما يجعله منطلقاً للبقاء ،وفرصةً للوصول إلى نوعٍ من الصداقة الفكرية ،أو التفاهم الفكري على الأقل ،بما يثيره القرآن في نفوس المؤمنين من ضرورة الانطلاق في مواجهة الخلافات ،من الهدف الإسلامي الكبير في تحويل الأعداء إلى أصدقاء ،بدلاً من تحويل الأصدقاء إلى أعداء .ولعل أسلوب الإنذار والتخويف ،يحقق بعض الصدمة النفسية القويّة التي قد تخلّص الإنسان من ذاتية الأنانية ،وتدفعه إلى التفكير الموضوعي السليم ،لأن الغالب في حالات استخدام الأساليب العدوانية ،انطلاقها من غياب الشعور بالمسؤولية على مستوى وعي النتائج السلبية الكامنة في هذا التصرف أو ذاك .
{وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} بما يمثله التوحيد من عنوان كبير للإسلام في دعوته وشريعته ومنهجه للحياة ،لأن ذلك يربط الحياة بالله عملياً ،حيث يجرّد الإنسان من أي انتماء أو علاقةٍ بالعناوين والأشخاص والأفكار والأشياء ،التي تدخل الفكر والقلب والشعور من طريق غير طريق الله ،كما هي حال كثير من الشخصيات التي يراد لها أن تطبع الإنسان بطابعها الذاتي على حساب ارتباط شخصيته بالله بهدف إبعادها عنه ،كقاعدة مركزية للحياة .
على ضوء ذلك ،ينبغي للمؤمنين أن يواجهوا قضية التوحيد والشرك من موقع ما تمثله من خط فاصل بين الانحراف والاستقامة ،في جميع مفردات الحياة الخاصة والعامة على جميع المستويات ،والمقياس الذي يمكن أن تقاس به صحة الأشياء وفسادها ،في دائرة الخطأ والصواب ،ولا يواجهونها كحالة فكرية مجرّدة لا عمق لها ولا امتداد .
إن التوحيد يختصر كل شيء في الفكر والشريعة والمنهج ،فهو الذي يحدد للأفكار هويتها لا العكس ،{وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ} الذين ينفتحون على قضايا الحياة ،في خط العقيدة والتشريع ،من موقع العقل الذي يفكر ،لا من موقع العاطفة التي تلتهب شعوراً .وبذلك يعملون على أن يقفوا أمام أية ظاهرةٍ ،أو أيّة قضيّة ،أو أيّ موقف يريدون أن يقفوه ،موقف من يثير الوعي العميق الذي تمثله الذكرى ،من خروج الإنسان من أجواء اللامبالاة بالأشياء التي تحيط به ،إلى أجواء الاهتمام المسؤول ،الذي يدعو الإنسان إلى الأخذ بأسباب المعرفة ،والتحرك من خلالها إلى مواقع العمل ،الذي يدعو الإنسان إلى الأخذ بأسباب المعرفة ،والتحرك من خلالها إلى مواقع العمل .
إن القرآن هو البلاغ الصادر من الله إلى الناس ،والذي يريد منهم أن يستمعوا إليه ،أو يقرأوه ،ليتمثلوه في وعيهم ووجدانهم ،ليثير فيهم الخوف من نتائج المسؤولية ،وليحرّك فيهم الاهتمام بالقضايا التي أراد الله لهم أن يواجهوها في حياتهم ،في إطار الالتزام بأمره ونهيه ،وليحطّم في داخلهم حالة الاسترخاء ،والكسل الفكري والروحي ،والضياع العملي ،وذلك من أجل أن يتحوّل الإنسان إلى طاقةٍ حيّةٍ فاعلةٍ مسؤولةٍ ،تفكر بالعقل ،وتدعو إلى اعتباره أساساً لاكتشاف الإيمان ،ولتحويل الإنسان من إنسان يقلّد إلى إنسان يبدع ويلتزم بالخط المستقيم المنطلق من رحاب الله ،المتصل بمسيرة الرسل وآفاق الرسالات .