حفظ الذكر
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} الذي تواجهون آياته بأساليب السخرية ،دون وعيٍ أو مسؤولية ،لأنكم لم ترتكزوا في موقفكم من الرسالة على موقع التأمل والتدبّر ،لتعرفوا عمق الإعجاز فيه ،وتلتفتوا إلى أن الله هو الذي أنزل آياته لتكون نوراً وهدىً للناس ،وأنّ البشر لا يمكن أن يأتوا بسورة من مثله ،لأن خصائصه الإبداعية شكلاً ومضموناً فوق قدرتهم ،{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من الضياع ومن التحريف ،ليبقى وثيقةً إلهيةً معصومةً يرجع الناس إليها في كل جيل عندما تشتبه الأمور ،وتضطرب الأفكار ،وتختلط المفاهيم وتتحرك التيارات المضادة أو التحريفيّة ،وتكثر الأكاذيب على صاحب الرسالة ،فإن القرآن يبقى المرجع المعصوم الذي يمثل الحقيقة الإلهية في كل آياته ،والميزان الصادق الذي يمكن للناس من خلاله أن يحددوا الحديث الصادق من الكاذب ،عند عرض التركة الكبيرة من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول( ص ) عليه ،لأن ما خالفه زخرف ،كما جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت ،بحيث يستطيع العارف بخصائص أسلوبه ،أن يكتشف زيف كل كلمةٍ تضاف إليه ،في ما يضعه الواضعون ،أو يحرّفه المحرّفون ،فلا تقترب الكلمة من الآية ،إلا لتبتعد عنها ،فلا تؤثِّر على سلامة النص القرآني في وعي المسلمين .وهذا ما نلاحظه في إجماع المسلمين ،إلا شاذاً منهم ،على أن النص القرآني الموجود بين يدي الناس ،هو كل ما أنزله الله على رسوله دون زيادة أو نقصان ،وأن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه .
بطلان التحريف
تنقل بعض كتب الحديث أحاديث تشير إلى زيادة كلمةٍ هنا ،أو نقصان كلمةٍ هناك ،أو سورةٍ كاملة في موضع آخر ،ولكن الذين ينقلونها يلاحظون دائماً أن مثل هذه الكلمات لم تذكر بعنوان الإضافة إلى النص القرآني ،بل بعنوان التفسير الذي يتناول المعنى المصداقي لها كما لو كان جزءاً منها ،كما يلاحظون أن الكثير من هذه الأحاديث موضوعٌ من قِبَل بعض الكذابين الذين يريدون إرباك العقيدة الإسلامية ،أو الرؤية الإسلامية للحياة فكراً وتشريعاً ،أو الذين يريدون تأكيد بعض الخلافات الفكرية بين المسلمين من خلال القرآن .
وعلى ضوء ذلك ،نلاحظ أنّ أيّ فريقٍ يتحدث عن مثل هذه التحريفات زيادةً أو نقصاناً ،لم يستطع مسَّ النص القرآني وسلامته على مستوى الواقع في حياة الناس ،فلم يحدث في شرق البلاد الإسلامية أو غربها أن وجدت ولو نسخة واحدة ،تحمل أيَّة زيادةٍ أو نقصان في الكلمات المنسوبة إلى النص القرآني ،ما يدلّ على عبثيّة هذا النوع من النقل أو الاعتقاد وعدم قدرته على النفاذ إلى واقع المسلمين ،فقد بقي ذاك الادعاء مجرد روايةٍ في هذا الكتاب أو ذاك ،ككثير من الروايات التي تتناقلها الكتب دون إحداث أيّ تأثير إيجابي في المسيرة الفكرية والعملية العامة .
مصحف الزهراء
يتحدث بعض الناس عن وجود كتاب اسمه «مصحف الزهراء » انطلاقاً من بعض الأحاديث المأثورة عن أهل البيت( ع ) التي قد توحي لدى هذا البعض بأنّه يمثل «قرآناً آخر » أو شيئاً من القرآن ،فمن خلال ما جاء في مضمون بعضها: ( إنه ثلاثة أمثال قرآنكم ) ،( وما فيه حرف من القرآن ) .وفي بعض الروايات كما ورد عن الإمام جعفر الصادق( ع ): ( عندي الجفر الأبيض ..ومصحف فاطمة ..أما والله ما فيه حرف من القرآن ولكنه إملاء رسول الله وخط علي ) ،ما يوحي بأنه ليس مصحفاً كبقية المصاحف لجهة ما توحيه كلمة المصحف ،ولكنه كتاب حديث يشتمل على أحكام الشرع ونحوها مما أملاه رسول الله على علي( ع ) ،وفي بعض الأحاديث أن فيه وصية فاطمة .
ولعل الملاحظ في مثل هذا الموضوع الذي يثير مثل هذه الضجة لدى كثير من الكتّاب ،أنه يتحرك ضمن خطةٍ إعلاميةٍ تستهدف تسجيل نقطةٍ سلبيّةٍ ضد بعض المذاهب الإسلامية دون نقدٍ أو تمحيص ،وفي الواقع أن أيّ مسلمٍ مخلص يستطيع أن يعرف كذب مثل هذه الإثارة ،من خلال ملاحظة واقعية ،وهي أنه لو فتش في شرق الأرض وغربها على نسخةٍ واحدةٍ من مصحف فاطمة ،لم يجدها ،لعدم وجود المصحف أساساً في كل الأوساط حتى بطريقة خفيّةٍ ،كما أن أحداً لا يعتقد بوجوده .
تأويل القرآن لمصلحة الخلافات
ويبقى أن نتناول في شأن حفظ القرآن من قبل الله ،التركة المثقلة من الأحاديث التي تتدخل في تفسير القرآن لمصلحة هذا الفريق أو ذاك ،بالمستوى الذي يسيء إلى الفهم القرآني المنفتح عندما تحاصره التفاصيل من كل جانبٍ ،ما يجعل النص القرآني أدباً رمزياً ،لا تعبّر فيه الكلمة عن المعنى إلا بطريقةٍ بعيدةٍ جداً ،تقصيه عن الأسلوب البلاغيّ ،إلى درجة أننا نلاحظ من خلال ذلك ،أن هؤلاء الناس قد يهمّهم حماية مذاهبهم وأفكارهم الخاصة ،أكثر مما يهمهم حماية كتاب الله ،إذ لا يكفي وجود حديث واحد من شخص ثقةٍ بحسب الموازين الفنية في علم الحديث ،لنرفع اليد عن الإشراق التعبيري للقرآن بما يتضمنه من معنى ،أو يدلّ عليه من ظاهرٍ ،لأن القرآن يمثل الكتاب المعصوم الذي نقطع بصحة كلماته المنسجمة مع أروع الأساليب الفنية في اللغة العربية ،فلا بد في تأويله والخروج عن ظاهره ،من وثيقةٍ حديثية بالقوّة التي تتناسب مع قوته ،أو تكون قريبةً منه مع ضرورة دراسة طبيعتها المضمونية ومدى ملاءمتها للأجواء العامة للقرآن روحاً ومنهجاً وفكراً .
إننا نضع هذه الملاحظة أمام المهتمين لدراستها ،حتى لا نضيع في متاهات الأحاديث الكثيرة التي تؤول القرآن ،وتتصرف في مضامينه ،بطريقةٍ وبأخرى ،دون أيّة محاكمةٍ دقيقةٍ ،فنبتعد بذلك عن صفاء الوحي الإلهيّ ،لنفرض عليه فكراً من فكرنا ونخضعه لخلافاتنا ،فلا يصلح بعد ذلك لأن يكون حكماً في ما نختلف فيه ،لابتعادنا عن صفاء مدلوله ،وإشراق معانيه .
حفظ الله للقرآن ..في مستوى الحقيقة
إن استمرار القرآن لدى جميع المسلمين ،في صيغةٍ واحدة ،في ما يلتزمونه كمصدرٍ للتشريع ،وفي ما يقرأونه في الصلاة وفي غيرها ،وفي ما يثيرونه على ضوئه في حياتهم من مفاهيم وعقائد ،هو دليل على حفظ القرآن ،فليس هناك في العالم الإسلامي كله ،ولا في غيره ،صيغة أخرى أو نسخة أخرى يختلف فيها القرآن لدى مذهبٍ عنه لدى مذهب آخر ،بالرغم من وجود كلمات شاذّةٍ هنا أو هناك ،فإن مثل هذه الكلمات لم تستطع أن تنفذ إلى مستوى العقيدة العامة .وإذا كان بعض الذين ذهبوا إلى القول بالتحريف يملكون موقعاً متقدماً من حيث العلم والوثاقة لدى أهل مذهبهم ،فإنهم لم يتمكنوا من النفاذ إلى واقع الناس العقيدي والعملي ،كما أنهم لا يملكون الوعي الذي يستطيعون به إدراك خطورة هذا الاتجاه على مستوى العقيدة الإسلامية ،عندما يتسرّب الخلل إلى النص القرآنيّ .هذا إلى جانب أن هؤلاء لا يملكون الذوق الفني الذي يعينهم على فهم أسرار اللغة العربية ليقارنوا بين هذه الكلمات التحريفية ،وبين الأسلوب القرآني المعجز ،فبقي كلامهم لغواً وجدلاً عقيماً لا قاعدة ثابتة له ،غرضه تسجيل النقاط على غيرهم من الفرق لحسابات مذهبية أو سياسية ،لذا لا بد من الابتعاد عنه عند تناول القرآن .