{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} بما يتمثل في كلمة الروح من معنى القوّة التي تتحرك بالحياة وتتحرك بها الحياة ،ولكن ما هو معناها في عمق الكلمة الواقعي ؟
ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به هو الوحي الإلهي ،الذي يعطي الحياة معناها الحي المتحرك في الفكر والشريعة والمنهج والحركة ،بما يمكن أن يحققه للإنسان من تقدم وانفتاح وحيوية ،كما هي الروح عندما تدبّ في الجسد ،فتعطيه نشاطاً من خلال حركة الحياة في داخله .
ولكن صاحب تفسير الميزان لم يوافقهم على ذلك ،بل اعتبر أن الروح «موجود مستقلّ ذو حياةٍ وعلمٍ وقدرةٍ ،وليس من قبيل الصفات والأحوال القائمة بالأشياء ،كما ربما يتوهّم ،وقد أفاد بقوله:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [ الإسراء: 85] أنه من سنخ أمره ،وعرّف أيضاً أمره بمثل قوله:{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [ يس: 8283] ،فدلّ على أنه كلمة الإيجاد التي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الذي يفيضه عليها ،لكن لا من كل جهةٍ ،بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادّة ولا زمان ولا مكان ،كما يفيده قوله:{وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [ القمر:50] فإن هذا التعبير إنما يرد في ما لا تدريج فيه ،أي لا مادّة ولا حركة له .فتحصّل أنّ الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيّته ،ولذلك سمّاه وحياً وعدَّ إلقاءه وإنزاله على نبيه إيحاءً في قوله:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [ الشورى:52] ،فإن الوحي هو الكلام الخفيّ والتفهيم بطريق الإشارة والإيماء ،فيكون إلقاء كلمته تعالىكلمة الحياةإلى قلب النبي( ص ) وحياً للروح إليه » .
ثم يناقش التفسير الأول بقوله: «وأما قوله: إن الروح بمعنى الوحي أو القرآن وكذا قول بعضهم إنه بمعنى النبوّة ،فلا يخلو من وجهٍ بحسب النتيجة ،بمعنى أن نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوّة ،وأما في نفسه وهو أن يسمّي الوحي أو النبوّة روحاً ،باشتراكٍ لفظيٍّ أو مجازاً ،من حيث إنه يحيي القلوب ويعمّرها ،كما أن الروح به حياة الأبدان وعمارتها ،فهو فاسدٌ ،لما بيناه مراراً أن الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى ،هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف وما يراه في مصاديق الألفاظ .والمتحصل من كلامه سبحانه أن الروح خلق من خلق الله ،وهو حقيقة واحدة ذات مراتب ودرجات مختلفة ،منها ما في الحيوان وغير المؤمنين من الإنسان ،ومنها ما في المؤمنين من الإنسان ..ومنها ما يتأيّد به الأنبياء والرسل » .
ونلاحظ من خلال هذا العرض الذي أفاض به المفسِّر الجليل السيد الطباطبائي رحمه الله ،في الحديث عن حركة الكلمة في مواردها في القرآن ،أنه يحاول تأكيد التفسير من خلال التوقف عند كلمة «الروح » على أساس إرادة معنى واحدٍ جوهريّ في مواردها ،وهكذا في كلمة «الأمر » ،وذلك من خلال التوقف عند المدلول الحرفي للكلمة هنا وهناك ،وهذا ما لاحظناه من استنطاقه الآية الكريمة{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [ يس:82] ،.ليعتبرها كل مدلول الأمر ،وليمتد بعد ذلك في تفسيره بأنه أمر غير مادي ،لتكون النتيجة أنه هو الروح ،في ما استفاده من قوله تعالى:{وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [ النحل: 77] .
ولكن قد نتحفظ على هذا الفهم ،لأن كلمة «الأمر » التي تنسب إلى الله ،أو تضاف إلى اسمه ،تختزن المعنى المتمثل في إرادته ،أو في فعله ،أو في السرّ الخفي الذي لا يعرفه أحد إلا الله ،وليس من الضروري أن يكون المعنى واحداً في كل موضع من موارد استعمالها ،فإذا وردت الكلمة في قوله تعالى:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [ الإسراء: 85] فيمكن أن نستوحي منها أنها السرّ الذي يختزنه الله في علمه ،ويخفيه عن عباده ،لأنه من خصوصياته ،أما في قوله تعالى:{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً} [ يس:82] الخ ،فإننا نفهم منها فعله الذي لا يحتاج فيه إلى جهدٍ وتعب أو وقت طويل .وهكذا نجد أن تطبيق المعنى يختلف في الموردين ..ولا نفهم وجهاً لاستفادته من كلمة{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً} [ يس: 82] ،أن الأمر هو شيء لا مادّة له ولا حركة ،لتكون النتيجة أنه «الروح » .
إننا نجد في هذا التفسير الكثير من التكلُّف البعيد عن روح النص القرآني ،الذي لا يتجمّد معناه في حرفيته ،بل يتعداه إلى آفاق أخرى تلتقي فيها الاستعارة والكناية والمجاز ،بآفاق واسعةٍ من المعاني المتحركة في أكثر من مجال .
وهكذا نستطيع أن نستوحي من{يُنَزِّلُ الْملائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} المعنى الذي يلتقي بالوحي ،أو بالقرآن في التطبيق ،في ما تمثله كلمة الروح من معنى الحياة التي تعطي الفكر والشعور والواقع حيويةً جديدةً ،تماماً كما هي الروح عندما تدب في الجسد ،فتبعث فيه الحركة والحياة .
{عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} ممن يصطفيهم الله لوحيه ،لما تحويه عقولهم وأرواحهم من صفاءٍ وطهر ،تجعلهم في مستوى عالٍ يلتقون فيه بمعاني الوحي ،وممن يختارهم الله لرسالته ،لما يمتلكونه من قوّةٍ وإرادةٍ وعزيمةٍ وشجاعةٍ في الكلمة والموقف ،يؤهلهم لمواجهة التحديات الصعبة من أعداء الله ،الذين يوجه الأنبياء إليهم كلمة الله القوية الحاسمة المنذرة التي يواجهون فيها الموقف النهائي ،الذي لا مجال فيه لأيّ تراجعٍ أو تردّد أو اهتزازٍ ،لأنه الموقف الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،لأنه المنهج الذي أراده الله للحياة ،لترتكزمن خلالهعلى أساس القاعدة الثابتة الممتدة في الأعماق من حيث العمق ،وفي الآفاق ،من حيث الامتداد ،والخط الذي أراد الله للإنسان أن يتحرك فيه في الصراط المستقيم .
{أَنْ أَنْذِرُواْ} ،الإنذار يعني تحميل الإنسان المسؤولية في مواجهة النتائج السلبية لعمله ،من اهتزاز الدنيا ،وعذاب الآخرة ،في حال إغراقه وابتعاده عن المدار الصحيح الذي تقتضيه القاعدة والخط .
مبدأ التوحيد
{أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَاْ} التوحيد هو المبدأ الذي ينطلق منه كل الحق ويصب فيه ،حيث تلتقي الحياة كلها في منهجٍ واحدٍ ،لا تتعدد معه السبل ،ولا تتحيّر فيه الإرادات ،ولا تختلف فيه الغايات ،فهو البداية وهو النهاية ،يربط بينهما خط السير الواضح المستقيم ،{فَاتَّقُونِ} والتقوى هي الالتزام بالنهج الإلهي ،وما يأمر به الله عباده من أعمالٍ وأقوال وعلاقات ،وما ينهاهم عنه من ذلك كله ،والإصرار على الانضباط الذي لا يسمح بالاهتزاز والانحراف والحيرة ،بل يركز الإرادة على أساس الوضوح في الرؤية ،والقوّة في اتخاذ القرار وفي تنفيذه .وبذلك يمكن لنا أن نلخّص ونختصر العقيدة في تفاصيلها ،والشريعة في مناهجها وأحكامها ،والمفاهيم في جزئياتها ،وكلياتها ،في الإسلام وكل الأديان الآخرى ،في كلمتين هما التوحيد والتقوى .
هل يكفي أن يتصور الإنسان الله بشكل مجرّد يحلّق به في آفاق لا مجال يحويه إلا الغيب ،الذي لا يدركه إلاّ بطريقةٍ غائمةٍ ؟أم لا بدّ له من اختزان الصورة في وعيه ،من خلال عظمة الله في خلقه ،ومن خلال رحمته في نعمه ؟