قوله تعالى:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة: أن المراد بها الوحي .لأن الوحي به حياة الأرواح ،كما أن الغذاء به حياة الأجسام .
ويدل لهذا قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} [ الشورى:52] ،وقوله:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [ غافر:15-16] .
ومما يدل على أن المراد بالروح الوحي إتيانه بعد قوله:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ} بقوله:{أَنْ أَنْذِرُواْ} [ النحل:2] لأن الإنذار إنما يكون بالوحي ،بدليل قوله:{قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْي} [ يوسف:45] الآية ،وكذلك إتيانه بعد قوله:{يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [ غافر:15] بقوله:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [ غافر:15] .لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضاً .وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو «ينزل » بضم الياء وإسكان النون وتخفيف الزاي .والباقون بالضم والتشديد .ولفظه «من » في الآية تبعيضية ،أو لبيان الجنس .
وقوله:{عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [ النحل:2] أي ينزل الوحي على من اختاره وعلمه أهلاً لذلك ؛كما بينه تعالى بقوله:{اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [ الحج:75] ،وقوله:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [ الأنعام:124] ،وقوله:{يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [ غافر:15] ،وقوله:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [ البقرة:90] .
وهذه الآيات وأمثالها رد على الكفار في قولهم:{لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [ الزخرف:31] .
قوله تعالى:{أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} [ 2] .
الأظهر في «أن » من قوله:{أَنْ أَنْذِرُواْ} أنها هي المفسرة ؛لأن إنزال الملائكة بالروحأي بالوحيفيه معنى القول دون حروفه ؛فيكون المعنى: أن الوحي الذي أنزلت به الملائكة مفسر بإنذار الناس «بلا إله إلا الله » وأمرهم بتقواه .
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة .كقوله:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [ الأنبياء:25] ،وقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ}[ النحل:36] ،وقوله:{وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} بالزخرف:45] ،وقوله:{قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [ الأنبياء:108] إلى غير ذلك من الآيات .وقد قدمنا معنى الإنذار ،ومعنى التقوى .