وبما أنَّ مستلزمات العدل الإِلهي اقتضت عدم العقاب إِلاّ بعد البيان الكافي والحجّة التامة ،فقد أضاف سبحانه: ( ينزل الملائكة بالروح من أمره{[2053]} على مَنْ يشأء من عباده أن أنذروا أنّه لا إله إلاّ أَنَا ) بناء على هذا الإِنذار والتذكير ( فاتقون ) .
أمّا المقصود من «الروح » في الآية فهناك كلام كثير بين المفسّرين في ذلك إِلاّ أنّ الظاهر منها هو: الوحي و القرآن والنّبوة ..والتي هي مصدر الحياة المعنوية للبشرية .
وقد فصل بعض المفسّرين الوحي عن القرآن وعن النّبوة ،معتبراً ذلك ثلاثة تفاسير مستقلة للكلمة ولكنّ الظاهر رجوع الجميع إلى حقيقة واحدة .
وعلى أية حال فكلمة «الروح » في هذا الموضوع ذات جانب معنوي وإِشارة إلى كل ما هو سبب لإِحياء القلوب وتهذيب النفوس وهداية العقول ،كما نقرأ في الآية الرّابعة والعشرين من سورة الأنفال: ( يا أيّها الذين أمنوا استجيبوا للّه وللرّسول إِذا دعاكم لما يحييكم ) ..وفي الآية الخامسة عشر من سورة غافر: ( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) ..وفي الآيةالثانية الخمسين من سورة الشورى: ( وكذلك أوحينا إِليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإِيمان ) .
وجليٌّ أنّ «الرّوح » في الآيات المتقدمة ترمز إلى «القرآن » و «الوحي » و «أمر النّبوة » .
وقد وردت «الرّوح » بمعاني أخر في مواضع من القرآن الكريم ،ولكنْ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما ذكر من قرائن نخلص إلى أنّ المراد من مفهوم «الروح » في الآية مورد البحث هو القرآن وما تضمنه الوحي .
وجدير بالملاحظة أنّ عبارة ( على مَنْ يشاء من عباده ) لا تعني أن هداية الوحي والنّبوة لا حساب فيها ،لأنّه لا انفصام ولا ضدية بين مشيئة اللّه وحكمته ،كما تحدثنا في ذلك الآية ( 124 ) من سورة الأنعام: ( اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ) .
ولا ينبغي غض الطرف من كون الإِنذار من أوائل الأوامر الربانية الموجهة إلى الأنبياء( عليهم السلام ) بدليل عبارة ( أن أنذروا ) ،لأنّ من طبيعة الإِنذار أن يعقبه انتباه فنهوض وحركة .
صحيح أنّ الإِنسان طالب للمنفعة ودافع للضرر ،ولكنّ التجربة أظهرت أنّ للترغيب أثر بالغ لمن يمتلك أسس وشرائط قبول الهداية ،أما مَنْ أعمت بصيرتهم ملهيات الحياة الدنيا فلا ينفع معهم إِلاّ التهديد والوعيد ،وفي بداية دعوة النّبي كان من الضروري استخدام أسلوب الإنذار الشديد .