ملامح انحراف عقيدي في مجتمع الدعوة الأول:
للانحراف في العقيدة نتائج على مستوى التصور والممارسة ،في ما يمكن أن يجعله المنحرفون لآلهتهم المدّعاة من امتيازات ،وفي ما يمكن أن ينسبوه إلى الله من أمور ،لأن الأساس إذا لم يكن مرتكزاً على قاعدة العلم والحجة ،فإن النتائج المتفرعة عنه ستخضع للهوى وللمزاج .وهذا نموذج مما كان مجتمع الدعوة الأول يعيشه من تصورات .
الشرك بالله عن جهل:
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} ،وهذا تعبير قرآني عن الآلهة التي يدّعونها من دون الله ،باعتبار أنهم لا يرتكزون إلى قاعدةٍ فكريةٍ أو علم ثابت .{نصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} ،فكانوا يخصونها ببعض الأموال والأشياء ،ويخصون الله ببعضها الآخر .وقد أشار الله إلى ذلك ،في آية أخرى ،في قوله تعالى:{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [ الأنعام: 136] ،ولكن الله سبحانه ينكر عليهم ذلك ،لأنهم لا يملكون مثل هذا الجعل ،طالما أن الله هو مصدر الرزق ،ما يفرض أن يكون أمره إلى الله لا إليهم ،فليس لله حصة خاصة فيه ،بل هو لله كله ،هو الذي يجعله لهذا ولذاك في مجال التوزيع والتقسيم ،في ما يشرّعه من أحكام ،وليس لهم من ذلك أي نصيب .{تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} ،من هذه الأحكام .
مع صاحب الميزان في تفسير الآية:
ولصاحب الميزان تفسير آخر للآية ،وذلك بأن يكون «المراد بما لا يعلمون ،الأسباب الظاهرة التي ينسبون إليها الآثار على سبيل الاستقلال ،وهم جاهلون بحقيقة حالها ،ولا علم لهم ،جازماً أنها تضر وتنفع مع ما يرون من تخلّفها عن التأثير أحياناً .وإنما نسب إليهم أنهم يجعلون لها نصيباً من رزقهم مع أنهم يسندون الرزق إليها بالاستقلال من غير أن يذكروا الله معها ،ومقتضاه نفي التأثير عنه تعالى رأساً لا إشراكه معها ،لأن لهم علماً فطرياً بأن الله سبحانه له تأثير في الأمر » .
ولكن هذا لا يتناسب مع ظاهر الكلمات ،لأن مدلول عبارة:{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} ،هو الحصة ،على نحو التمليك ،كما أن جوّ الآيات ؛هو الحديث عن الأصنام التي يعبدونها من دون الله ،وهو الظاهر من كلمة{لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} ،لأنه أشبه بالمصطلح القرآني للشريك المعبود عندهم ،كما يوحي وصف المشركين ،بأنهم الذين لا يعلمون في قوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [ البقرة:113] وذلك في مقابل أهل الكتاب ،مع أن أسلوب الآية ،هو نفسه الأسلوب التي جاءت في سياقه آية تقسيم المشركين الحصص بين الله وبين الشركاء .