وقد بين سبحانه نوعا من الاسترسال في عبادتهم الأوثان ، وهو أن يجعلوا مما رزقهم الله تعالى من بهائم الأنعام نصيبا ، فقال تعالى:
{ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ( 56 )} .
وذلك أن هؤلاء المشركين يسترسلون في شركهم ، فيحسبون أن من القربى للأوثان أن ينذروا لهم نذورا من الأنعام والحرث ، فيجعلون هذا بزعمهم لله وللأوثان بزعمهم ، ويخافون الأوثان أكثر من خوفهم من الله مع علمهم بأنه لا ينجيهم من كربهم إلا الله تعالى ، على ما تبين من قول ، وقد قال تعالى في ذلك في سورة الأنعام:{ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( 136 )} [ الأنعام] .
وقوله تعالى:{ يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم} ، يصح أن يكون الضمير عائدا على الأوثان ، ويكون المعنى:ويجعلون للأوثان التي هي أحجار لا تعلم شيئا ولا تضر ولا تنفع ، نصيبا مما رزقناهم ، وأعيد الضمير إلى الأوثان على أنه ضمير العقلاء ؛ لأنها كذلك في زعمهم ، فيكون ذلك تهكما بهم .
ويصح أن يعود الضمير إليهم كالضمير في{ ويجعلون} والمعنى على هذا يكون:يجعلون لما لا يعلمون له حقيقة تسوغ لهم أن يعبدوها ، إنما هو وهم قد سيطر عليهم من غير حقيقة ثابتة يعلمونها ، أو هي صالحة لأن يعلموها إذ هو لا وجود له إلا على أنه حجر لا يضر ولا ينفع ، والخيال الناشئ هو الذي جعل لهم ذلك التصور الباطل .
وإن ذلك أعظم الافتراء على الله وعلى الحقيقة ؛ ولذا قال تعالى مؤكدا القول بالقسم بذاته العلية:{ تالله لتسألن عما كنتم تفترون} وهذا تهديد شديد ، قد أكده سبحانه بالقسم بذاته العلية وبتلك الصيغة القوية ، وهي القسم بالتاء ، وباللام ، وبنون التوكيد الثقيلة ، وأنهم مسئولون عن هذا الافتراء .
وسمى الله سبحانه وتعالى ذلك افتراء وكذبا مقصودا ؛ إذ أشركوا وكذبوا على الله وعلى أنفسهم ، وضلوا إذ نذروا لما لا يعلمون له حقيقة ، وضلوا بذلك ضلالا بعيدا .