{مَسْحُورًا}: ساحراً ،أو أعطيت علم السّحر .
الإيمان مصدر كل قوة
وهذا حديثٌ عن حركة الرسالات في التاريخ ،من أجل أن يأخذ المسلمون منه الدرس ،ويعرفوا أن القوّة المهيمنة لا تمثل الحالة الضاغطة التي تشل قدرة المستضعفين عن الحركة ،وتجمّد مواقفهم عن الرفض ،وتسقط مواقعهم عن الامتداد ...بل يمكن لهم أن يأخذوا من قوّة الموقف الإيماني قوّةً جديدةً تفرض نفسها على الأقوياء ،مستندين إلى الإيحاء الدائم بأن الله مع الذين آمنوا ،وأن القوّة ليست مطلقةً للذين يملكونها ،ففي داخل كلِّ واحد منهم مواقع للضعف ،وأن الضعف ليس مطلقاً للذين يعيشونه ،ففي ساحة كلّ واحدٍ منهم موقعٌ للقوة ...فلا بد من التماسك أمام حالات الاهتزاز النفسي ،ليملك المؤمن نفسه ،وليكتشف التوازن بين مواقع الضعف ومواقع القوة في دائرته ودائرة الآخرين ،ليعرف كيف يؤكد المواقف على هذا الأساس ،ويتعرفمن خلال ذلكعلى آفاق رعاية الله له في الحياة .
الله تعالى يحقق التوازن بين فرعون وموسى
وهذا ما نتمثله في هذه الآيات التي يختصر الله فيها قصة موسى ( ع ) في كلماتٍ قليلةٍ ،توضّح لنا كيف واجه موسى ( ع ) قوّة فرعون ،وكيف حرّك الله له في ساحته الآيات التي هزمت نفسيته ،وكيف تعامل معها في الضغط على فرعون .
{وَلَقَدْ أتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيِّنَاتٍ} والظاهر أن المقصود بها هي ما أشار إليه في آيات أخرى ،من العصا ،واليد ،والطوفان ،والجراد ،والقمل ،والضفدع ،والدم ،والسنين ،ونقص الثمرات ،وبذلك هيّأ الله سبحانه وتعالى الإطار الموضوعي والتربة الخصبة لحركة موسى( ع ) الرسالية على صعيد تبديل المناخ الانهزامي السلبي الذي كان يفرضه فرعون على بني إسرائيل ،وذلك من خلال ما تحمله هذه الآيات من إشاراتٍ وآمالٍ على مستوى التدخل الإلهي لإنقاذهم مما هم فيه .{فَاسْأَلْ بَني إِسْرَائيلَ إِذْ جَآءهُمْ} موسى ،فأثار فيهم روحاً جديدة من القوّة التي توحي بالثقة العميقة بعد أن عاشوا الانسحاق النفسي الذي أفقدهم حركة الإرادة الرافضة أمام جبروت فرعون ،حتى اعتبروا الضعف الكامن فيهم قضاءً وقدراً ،لا يملكون مواجهته بوسائلهم الخاصة ،وكان لا بد من الصدمة التي تتمثل بالمعجزة الخارقة التي تؤكد لهم «أن القوة لله جميعاً » ،وأن الجبار لا يملك قدرةً مطلقةً ،بل إن قوّته مستعارةٌ من ضعف الآخرين ،أمّا قدرة الله ،فهي القوة التي لا تقف عند حدٍّ ،وعلى المؤمنين أن يعتمدوا عليها ،ليواجهوا التجربة من موقع الانفتاح .
فاسألهم عن تجربتهم التي عاشوها من خلال ما تستنطقهم في أخبارهم عندما جاءهم موسى ( ع ) بالبينات وواجه فرعون{فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يا موسَى مَسْحُورًا} فلم يكن يفهم كيف يمكن للروح أن تستيقظ من موقع المعرفة لتأخذ لنفسها القوّة ،ولم يستطع أن يستوعب ما هو معنى التحدي في الرساليّ الذي يحمل الرسالة لتكون قوّةً للإنسان في الفكر والروح والحياة ،وكيف يمكن للإنسان الذي يتصل بالله أن يعيش الحرية الرافضة لكل ألوان العبودية ،لأنه لم يعش تجربةً سابقةً في هذا المجال ،فالناس الذين يعيشون معه ،هم ممن يتزلّفون إليه ليحصلوا على أطماعهم منه ،أو ممن يخافون منه فيتساقطون أمام جبروته ...ولم يكن ليفكِّر بأن هناك وجهاً آخر للحياة ،يطلّ على عالم جديد من الفكر والحرية والإيمان ...كان السحر هو الذي يفسر الظواهر غير المألوفة ،لأنه الأسلوب الذي يصوّر للإنسان الأشياء التي تبهر الأبصار ،وتأخذ العقول ،وتتحوّل إلى حالة معقّدة في حياته بحيث يتصرف بطريقة غير مألوفة ،وبذلك يكون السحر هو التفسير الذي يملكونه ،لمواجهة مسار الأنبياء الذين يتحركون بشكلٍ غير معروف ،من خلال ما يقولون وما يفعلون ،ولهذا كان ردّ الفعل لدى فرعون أنه اعتبره خاضعاً لعملية سحرٍ قام بها بعض السحرة ضده ،فأصبح يتحرك بطريقةٍ غير معقولةٍ ،ويتكلم كلاماً غريباً لا ينسجم مع طبيعة الواقع .
ولكن موسى ( ع ) كان يعيش الثبات في الموقف والانفتاح في آفاق الرسالة ،فلم ينفعل ولم يسقط أمام التحدي الفرعوني ،الذي يتعاطى كما لو كان مريضاً بالصرع الناشىء من السحر .