] وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأواْ مِنَّا[ إنهم يبحثون عن ردِّ الفعل الذي يقابل البراءة ببراءة مماثلة تمسُّ الظالمين في مصالحهم في مواقعهم في الدنيا ،فيتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا كرّةً أخرى ،ولكنَّها تمنيات تضيع في الهواء .
] كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ[ عندما ترجع بهم الذكرى إلى حياتهم التي كانوا يسيرون فيها في ركاب هؤلاء الظالمين ،ليبنوا حياة الظلم والطغيان بسواعدهم وجهودهم في كفاح متواصل طويل .إنهم يواجهون الموقف ليروا كلّ تلك الأعمال والجهود تتحوّل في مصيرهم إلى حسرات لا تنفعهم ،فقد وقعوا في النّار] وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ[ مهما احتجوا ومهما برّروا أو تنهدوا ،فقد كان لهم مجال كبير في دراسة الواقع ومعرفته من خلال وعي الرسالة والمبدأ ،وقامت عليهم الحجّة من اللّه في ذلك كلّه .
وبناءً على ما تقدّم ،نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات عدّة نقاط ،أهمها التالي:
الالتزام الفكري يقود إلى الالتزام العاطفي:
1إنَّ الالتزام بالعقيدة لا يتمثّل في الالتزام الفكري الذي يمثّل الموقف الفكري للإنسان ،بل يمتد إلى الالتزام العاطفي والروحي مع خطّ الفكر في حركة الحياة إزاء العلاقات الإنسانية الموافقة أو المضادة ،فإنَّ التقاء الجانب العاطفي بالجانب الفكري في شخصية الإنسان المسلم يمثّل وحدة الشخصية ،بينما يكون اختلافهما مظهراً من مظاهر ازدواجيتها وتمزّقها الذاتي ،ما يترك آثاراً سلبية على استقامتها على الخطّ الإسلامي المستقيم .
وإذا كانت العواطف غير الإسلامية تنطلق من مفاهيم غير إسلامية ،باعتبار أنَّ العاطفة هي نتيجة المفهوم الكامن في الذات ،فإنَّ ذلك يؤدي إلى التناقض بين الالتزام الفكري الذي يوحي بعاطفة إيجابية ،والعاطفة السلبية الناتجة عن مفهوم مضادّ ،فكيف يمكن اجتماعهما في الذات في الوقت الذي ينفي فيه أحدهما الآخر ؟!
الحبّ موقف لا عاطفة مجرّدة:
2إنَّ الحبّ في المفهوم القرآني لا يتمثّل في العاطفة المجرّدة ومظاهرها الساذجة ،بل يتمثّل في العاطفة التي تتحوّل إلى مواقف عملية في اتجاه خطّ الحبّ ،وقد يتطوّر المفهوم في اعتبار المواقف العملية المضادة دليلاً على ضعف الحبّ أو عدم جديّة العاطفة وصدقها .
الدعوة إلى اكتشاف ضعف الأقوياء:
3إنَّ القرآن يوجه الإنسان إلى اكتشاف ضعف الأقوياء من الطغاة بالبحث عن نقاط الضعف الكامنة في داخلهم ،وبالانطلاق في التصوّر الديني بعيداً إلى يوم القيامة ،حيث يقف الأقوياء في موقف الضعف والانسحاق أمام عذاب اللّه وعقابه .
وهكذا ينطلق المنهج التربوي القرآني في عملية إيحائية ترتبط بالسلب من حيث فقدان الطغاة والمستكبرين للقوّة التي تبرر للنّاس الارتباط بهم في أمورهم الخاصة والعامة وفي قضايا المصير ،وترتبط بالإيجاب من خلال الحقيقة التوحيدية التي تؤكد «أنَّ القوة للّه جميعاً » «وأنَّ العزة للّه جميعاً » في خطاب الذين يريدون الاعتزاز بغير اللّه ،فقد جاء في قوله تعالى:] الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للّه جَمِيعاً[ [ النساء:139] وقوله تعالى:] مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ[ [ فاطر:10] على أساس ملكية اللّه للقوّة كلّها ،والعزّة كلّها ،فاللّه هو مصدر القوّة والعزّة ،ما يفرض على النّاس أن يطلبوها منه ،ويرتبطوا بقوّته وعزّته .هذا هو الخطّ الأصيل في التوحيد الحركي للإنسان المسلم في العمل والوجدان .
المسؤولية الفردية في الإسلام:
4إنَّ الآيات توحي للمؤمنين الضعفاء بأن المسؤولية في الإسلام فردية ،يتحملها الإنسان من خلال عمله ،وأنَّ الضغوط الخارجية التي تنطلق من الشعور بسيطرة الأقوياء على الموقف ،وحاجة الضعفاء إليهم في ما يملكونه من مالٍ وجاهٍ وسلطةٍ ،لا تمثّل أيّ مبرر شرعي للانحراف عن الخطّ ،ثُمَّ تُبيّن لهم أنَّ الأساليب التي يتبعها هؤلاء الأقوياء في الإيحاء لهم بالحماية في مواقف الشدَّة ،ليشعروا بالأمن من خلال هذه العلاقة ،هي أساليب تضليلية لا تثبت أمام الواقع الذي يفرض نفسه ،وهو أنّ هؤلاء ليسوا قادرين على حماية أنفسهم ،فكيف يقدرون على حماية غيرهم من عذاب اللّه ؟!وسينكشف الواقع المرير عن إعلان براءتهم من كلّ تبعةٍ أو مسؤولية من كلّ هؤلاء عندما يرون العذاب ويواجهون الموقف في الدنيا قبل الآخرة ،ليبدأواهنابالبراءة من هؤلاء المتبوعين ،فلا ينفذون مخططاتهم الشريرة التي لا ترضي اللّه ،ولا يطيعونهم في معصية اللّه ،ليتفادوا الموقف الخاسر هناك ،وليحصلوا على ما يتمنونه من العودة إلى الدنيا ليعلنوا البراءة كردّ فعل لبراءة هؤلاء منهم .إنَّ الآيات التي تتحدّث عن خيبة الضعفاء في الآخرة لا تتحدّث عن القضية كقصة للإثارة ،بل كأسلوب من الأساليب الوقائية التي توجه الإنسان كي يتفادى الوقوع في هذه المواقف الحرجة هناك ،فيكون أكثر وعياً للواقع وللمصير ،وبهذا يتحوّل القرآن إلى كتاب يرصد لنا المستقبل من خلال الحديث عن نماذج الماضي التي لا تعيش في إطاره المحدود ،بل تعيش في نطاق الحياة كلّها ،واللّه العالم بأسرار آياته .