الوصية ..الصوم ..الدعاء ..
هذه إحدى آيات الأحكام التي تضمنتها هذه السورة كجزءٍ من تنظيم المجتمع المسلم في المدينة في علاقاته الإنسانية ،وذلك في نطاق مبدأ الوصية للوالدين والأقربين ،فقد أراد اللّه للإنسان أن يعبّر عن شعوره بالمسؤولية تجاه أرحامه بعد الموت ،كما أراد له أن يصلهم في حال الحياة ،وذلك بأن يوصي لهم ببعض من مالهفي ما إذا ترك شيئاً منهليدلّل على عاطفته نحوهم ،ما يحقّق لرابطة القرابة أساساً يمتزج فيه الجانب الروحي بالعطاء المادي في عملية إنسانية هادفة .
ولعلّ هذا ما يميّز الوصية عن الإرث ،فإنَّ الإرث يمثّل وضعاً تشريعياً لا تتدخل فيه إرادة الإنسان وعاطفته ،لأنه حكم شرعي لا خيار للإنسان فيه ،فهو من فرض اللّه الذي يجب أن يُخضع له .أمّا الوصية ،فإنها تنطلق من إرادة الموصي وتفكيره بحالة الموصى له بعد الموت ،ومحاولته إيجاد فرصة مادية له في ما يوصي له به .ويأتي التشريعبعد ذلكليؤكد هذه الإرادة ،وليفرض تنفيذها على المكلّفين بشكلٍ دقيق لا مجال فيه للتغيير والتبديل تحت طائلة الإثم والعقاب .
هل الآية منسوخة ؟
وقد حاول بعض الفقهاء والمفسرين أن يعتبر الآية منسوخة بآية الإرث .وقيل في وجه ذلك: «إنَّ الميراث في أول الإسلام لم يكن ثابتاً على الكيفية التي جُعلت في الشريعة بعد ذلك ،وإنما كان الإرث يدفع جميعه للولد ،وما يُعطي الوالدان من المال فهو بطريق الوصية ،ولكن هذا الرأي غير دقيق من وجهين:
الوجه الأول: لأنَّ آية الإرث قد رُتّبت على عدم الوصية ،الأمر الذي يجعلها مؤكدة لشرعية الوصية بدرجة متقدّمة ،فكيف يمكن أن تتضمن إلغاءها ونسخها الذي يتوقف على أن يكون الناسخ منافياً للمنسوخ في دلالته ؟!
الوجه الثاني: لأنَّ النسخ يفرض تأخر الآية الناسخة عن المنسوخة ؛ولم يثبت ذلك بدرجة قطعية ،لأنَّ الخبر الدال على ذلك من أخبار الآحاد التي لا تفيد علماً ،مع أنَّ النسخ يحتاج إلى الدليل القطعي .
ونضيف إلى ذلك أنه لا يمكن أن تكون ناسخة للوصية للأقربين ،لأنهم لا يرثون مع الولد ليكون الإرث بديلاً عن الوصية .
وحاول البعض اعتبارها منسوخة بالحديث المروي عن النبيّ ( ص ): «لا وصية لوارث » ..ولكن ذلك لا يتمّ لوجوه ذكرها أستاذنا السيِّد الخوئي قده في كتابه «البيان في تفسير القرآن » وهي:
1إنَّ الرواية لم تثبت صحتها ،والبخاري ومسلم لم يرضياها .وقد تكلّم في تفسير المنار على سندهما .
2إنها معارضة بالرِّوايات المستفيضة عن أهل البيت ( ع ) الدالّة على جواز الوصية للوارث .ففي صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر ( ع ) قال: سألته عن الوصية للوارث فقال: تجوز .قال: ثُمَّ تلا هذه الآية:] إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[ وبمضمونها روايات أخرى .
3إنَّ الرواية لو صحت وسلمت عن المعارضة بشيء ،فهي لا تصلح لنسخ الآية ،لأنها لا تنافيها في المدلول .غاية الأمر أنها تكون مقيدة لإطلاق الآية ،فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الإرث لمانع ،وبمن لا يرث من الأقربين .وإذا فرض وجود المنافاة بينها وبين الآية ،فقد تقدّم أنَّ خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخاً للقرآن بإجماع المسلمين ،فالآية محكمة وليست منسوخة » .
وقد يخطر في البال ،أنَّ ظهور الآية في أن الوصية فرض على الإنسان لا يتناسب مع فريضة الإرث ،لأنَّ الاهتمام بالإيصاء ينطلق من مبدأ الحرص على مساعدة الموصى لهم بعد الموت ،نظراً إلى فقدان رعايته الثابتة لهم حال الحياة .وهذا ما يمكن أن يحقّقه مبدأ الإرث .قد يخطر ذلك في البال على أساس الاستبعاد ،لا على أساس الحجّة والاستدلال .
وفي ضوء ذلك ،يمكن أن يستوحي الإنسان منها أجواء النسخ ،ولكن في ما تدل عليه الآية من الوجوب ،فلا تنافي ثبوت الجواز في ما تدل عليه الأحاديث عن أهل البيت ( ع ) .ولكنَّنا ألمحنا في بداية الحديث عن الآية ،إلى أنَّ دور الوصية في مدلوله الإنساني ،يختلف عن مدلول تشريع الإرث ،ونضيف إلى ذلك أنَّ موارد الوصية لا تلتقي دائماً مع موارد الإرث ؛فقد تحدث بعض الحالات التي لا مجال للإرث فيها ،ما يجعل للوصية دورها الفاعل الكبير ؛وقد تحدث بعض الأوضاع التي يحتاج فيها الوارث إلى مزيد من الرعاية المادية التي لا يحصل عليها من خلال نصيب الإرث ...وعلى كلّ حال ،فإنَّ الاستبعاد لا يصلح أساساً لتقرير فكرة أو رفضها في أي مورد من الموارد القرآنية التي لا بُدَّ لنا فيها من الاعتماد على الأسس الدقيقة للتفسير .
جولة مع مفردات الآية:
ولا بُدَّ لنا بعد ذلك من جولة تفسيرية تفصيلية مع الآية في مفرداتها ومضمونها العام .
] كُتِبَ[ بمعنى قضى من القضاء ،وهو الحكم الذي قد يوحي بالإلزام ،فلا بُدَّ من الالتزام به إلاَّ أن يدل دليل من كتاب أو سنة أو إجماع على خلاف ذلك ،لأنَّ اللفظ لا يخلو من قابلية لذلك ،فالحكم بشيء على شخص قد يقترن بالظروف التخفيفية التي تجعل المضمون اختيارياً ،وقد لا يقترن بذلك فيبقى على حاله .ولما كان إجماع المسلمين قائماً على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين ،فلا بُدَّ من أن نلتزم بذلك فنحمل الكتابة على أصل التشريع والجعل .
وعلى هذا يكون قوله تعالى:] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ[ أي: سجل عليكم تأكيد الوصية] إِن تَرَكَ خَيْرًا[ مالاً معتداً به .
والخير: كناية عن المال .وقد اختلفت الرِّوايات في تحديده ،ولكن الظاهر منها هو المقدار المعتد به ،الذي يمكن أن يبقى منه مقدار زائد على حصة الإرثحسب حالة الورثةكما ورد في الحديث عن عليّ ( ع ) ،أنه «دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم ،أو ستمائة درهم ،فقال: ألا أوصي ؟قال: لا ،إنما قال اللّه تعالى:] إِن تَرَكَ خَيْرًا[ وليس لك كثير مال ،فدع مالك لورثتك » .والظاهر منه المقدار الذي يتناسب مع طبيعة واقع الحال للموصي والموصى له والورثة ،] الْوَصِيَّةُ[ وهي التحليل لما بعد الموت] لِلْوَلِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ[ الذي يحسن الإنسان فيه إلى أقربائه .
] حَقًّا[ ثابتاً] عَلَى الْمُتَّقِينَ[ لأنَّ التقوى تفجر في الإنسان طاقات الخير بما توحي به من الحصول على محبة اللّه ورضاه ،والابتعاد عن غضبه وسخطه ،ما يدفعه إلى القيام بالأعمال المحبوبة له ،واجبةً كانت أو مستحبةً ،لأنَّ ذلك هو سبيل القرب إليه والنجاة من عذابه .